للوهلة الأولى يبدو الحديث عن الاصلاحات في عالمنا العربي مغريا للكثير من الباحثين والمهتمين بالشأن العام، على اعتبار أنه يمثل باستمرار مدخلا مهما لنقد ما هو قائم من سياسات ولا نقول استراتيجيات، لأننا جميعا في العالم العربي حكومات ومعارضة نفتقد بشدة للتفكير بشكل استراتيجي في مجمل قضايانا الوطنية الملحة منها والمؤجلة، كما أن تلك السياسات ان وجدت فهي في واقعها سياسات مهترئة في مضامينها وهي من دون أفق، وكثيرا ما تستند الى التنظير الخاوي من أية مضامين حقيقية. وكان حريا بنا شعوبا وحكومات أن نستفيد مما حملته لنا مجمل التغيرات الأقليمية والدولية مع مطلع الألفية الجديدة من تباشير تحولات كان يمكن توظيفها بشكل أكبر، ليس فقط للضغط على الحكومات باتجاه تحقيق اصلاحات أولية لا تحتمل التأجيل، استسهالا لمهمة الاصلاح الفوقي التي ربما لا تحتاج الى عناء كبير، وانما لتوظيف كل ذلك لتسهيل اجراء تحولات نوعية وذات معنى حقيقي في طرائق واساليب ادارتنا لعملية الصراع الاجتماعي بشكل عام، وهي المهمة التي تنبهت لها دول وشعوب امريكا اللاتينية تحديدا. وبالنظر الى ما تعانيه نخبنا ومعارضاتنا وحكوماتنا ومجتمعاتنا بأكملها وعلى اختلاف توجهاتها الليبرالية واليسارية والقومية والاسلامية من ضياع وتشرذم وخواء، وبالتالي انعدام الحيلة، ويزيد الأمر سوءا هيمنة قوى وتيارات ما أصبح يعرف بالاسلام السياسي على المشهد العام في مجتمعاتنا مع تخبطها المستمر وخصوماتها القديمة الجديدة التي أججت بها كثيرا من نعرات وعداوات واصطفافات ماضوية هي في حقيقتها عبء بل مجموعة أعباء أصبح لزاما على شعوبنا سرعة اجتراح الحلول الممكنة للخروج من متاهاتها المتشعبة، ومع هكذا وضع أضحت شعوبنا بالفعل بين مطرقة الحكومات وسندان تلك القوى التي استولت بسطوة خطابها الفوضوي العدمي والتجزيئي والمتناحر حتى العظم، على اجزاء ومساحات وشرائح مهمة من مجتمعاتنا التي يراد لها ان تغرق طويلا في مستنقعات ملؤها الجهل والتخلف، وبدعاوى الصحوة والعودة الى جادة الطريق، كل ذلك على حساب قضايانا الصغرى والكبرى المعلقة الى ما لا نهاية وسط عالم متغير باستمرار.
وهنا يجدر القول إن غياب القوى النهضوية الحقيقية الفاعلة في مجتمعاتنا أو تغييبها القسري من قبل الأنظمة السياسية القائمة طيلة العقود الطويلة الأخيرة، قد اسهم بشكل كبير في خلق ذلك الفراغ المهول في ساحات ظلت تلعب فيها وحتى الآن قوى ذات برامج وادوات متخلفة في غالبها، وتحكمها تبعات إرث ثقيل من الخصومة والجهل المستند على تاريخ مثقل بالضياع والتشرذم، يشكل في حقيقته أكبر إعاقة لمجتمعاتنا التي باتت في حاجة ماسة الى برامج نهضوية ذات آفاق عصرية في مضامينها وخطابها العام، بحيث تنحو باتجاه تدشين مهمات التحول الديمقراطي المتلازمة مع ضرورات اشاعة السلم الأهلي حفاظا على مجتمعاتنا من السقوط المتكرر في مستنقعات التطرف، وتكون قادرة على الإبحار بسفننا المتعبة الى شواطىء أكثر أمنا وبحار لا يسكنها الخوف، على أن تحقيق ذلك في حد ذاته يظل مسؤولية استثنائية يجب ان تتصدى لها قوى وتيارات وطنية ذات برامج واجندات ورؤى حقيقية ملتصقة بحاجات شعوبها الحقيقية، بحيث تكون قادرة أولا على امتلاك القدرة على اقناع مجتمعاتها من جديد، والتي طال انتظارها واختلت قناعاتها بدرجة كبيرة بقدرة تلك القوى على الاسهام في قيادة مهمات التحول الديمقراطي وباقل كلفة ممكنة.
على أن ذلك لوحده يظل ضربا من الطوباوية وشيئ ليس بيسير من الخيال المفعم بنفس نخبوي كثيرا ما مثل بتقاعسه الممض وتخلف خطابه وتقليديته وارتكانه الى تاريخية لا يمل من الحديث حولها واجترارها من قبل من هم في قمة الهرم النخبوي وصولا لقاعدته، ان لم تقم تلك القوى ذات البرامج والامكانات الكامنة والحضور الايجابي المؤثر المقنع وليس العدمي في المشهد العام بتجذير مضامين واساليب نضالاتها ورفض تبعيتها وذيليتها للماضي الذي عليها فقط أن تتعلم من تجاربه دون أن تقيم له باستمرار حضوره الباهت في كل محفل كما تفعل الآن بعضا من القوى اليسارية والليبرالية والقومية التقليدية، حتى تضمن استمرار ديمومتها وحيويتها بدلا من القبول في المضي في بناء هياكل لا ينقصها المجد التاريخي الحافل، وانما القناعة الحقيقية بالقدرة على تغيير وتطوير رؤاها انطلاقا من تاريخها المليء بالتجارب والعبر، حيث أن مجرد استسهال مطالبة الحكومات هكذا بالقيام باصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية علاوة على الامعان في شتم الأنظمة بمناسبة وغير مناسبة، فان جل ذلك يبقى شعارات عاجزة واداء واجب لا غير! تجاه ما تريد ان تدغدغ به تلك القوى من عواطف وأحاسيس جماهيرها المتعبة والمنتظرة الى ما لا نهاية! من دون أن تقدم ما هو مقنع حقيقة من بدائل لشعوبها قبل حكوماتها، فان ذلك بحد ذاته يبقى مجرد اضاعة للوقت وامعان في تجهيل واغواء للشارع واستسهال للكلام المباح دون القدرة على اجراء التأثير الحقيقي، حيث أن ذلك يبقى بعيدا كل البعد عن التأسيس لقناعات راسخة لدى الجماهير بضرورات الاصلاح ومراميه والذي بسببه سرعان ما تغادرها- اي الجماهير- محبطة يائسة بل وناقمة ايضا، تلك اذا مسؤليات قوى المعارضة الحية تجاه حاضر ومستقبل شعوبها، وحتى لا يكون النضال نحو تحقيق الاصلاحات والتحولات الديمقراطية المنشودة مجرد ترف وشعارات لا تستند أحيانا كثيرة الى حقائق موضوعية والتزام متجذر في الوعي العام وقناعات راسخة بضروراته أصلا، وانما ضربا من الوهم والاستهلاك المفعم بخواء فكري يفضحه العجز عن امتلاك القدرة على الاسهام بشكل ايجابي وخلاق في دعم قضية ومهمات التحول الديمقراطي في مجتمعاتنا التائهة منذ زمن طويل بين عجز وتشنجات قوى المعارضة المتمترسة في مواقعها القديمة الجديدة دون حراك، وقسوة الحكومات وظلاماتها المستمرة وعدم جديتها وقصر نظرها وادمانها لشهوة السلطة وامتلاك الثروات، واكتفائها بدلا من ذلك بلغة شعاراتية محضة لتوجهاتها نحو الاصلاح والتغيير والتي لا تصمد طويلا، وسط عالم يمور بالتحولات من حولنا نحن فيه آخر الفاعلين.
صحيفة الايام
30 نوفمبر 2008