إن صراع العلمانية والحركة الدينية قديم في النشاط السياسي لليهود، ففي العصر الحديث وخاصة في أوروبا الغربية ومع هزيمة الأنظمة الإقطاعية الدينية المسيحية أخذت الطائفة اليهودية تطرحُ بقوةٍ على نفسها مسألة الهوية الدينية في عصر علماني غربي هائل؛ فإلى أين تتجه وماذا تكون في عصر الحداثة والاستعمار؟ وهو سؤالٌ مصيري تم طرحه في عقر دار الغرب المتوجه للسيطرة على العالم وحوز كنوزه، وكانت نتائج السؤال خطيرة جداً على وضع اليهود وعلى أمم أخرى لم يكن لها علاقة بذلك السؤال وذلك اللعاب السائل على الثروات، خاصة على اليهودي الشيلوكي الذي يتحين الفرصة للهبر من اللحم. ظهرَ إتجاهٌ علماني قوي في الجماعات اليهودية يطرح حلاً فردياً على كل يهودي؛ (كن يهودياً في بيتك وحداثياً علمانياً في العالم الخارجي).
وهو اتجاهٌ تنويري بين اليهود المثقفين، لكن لا يتطابق مع أوضاع اليهود عامة، فهناك ملايين من اليهود خارج هذه الأسئلة وتعيش عالماً تقليدياً سواء في الشرق أم الغرب. وهكذا فإن حركة علمانية تولدت عبر الثقافة الديمقراطية الغربية السائدة، راحت تدعو إلى العيش التحديثي في الغرب نفسه، وعدم الذوبان كذلك في علمانيته. وكان لها مرادفٌ ديني عند اليهود المتدينين الرافضين للدخول في السياسة والزج باليهود في مشروعات الاستعمار. لكن قوى أخرى تمثل اتجاهات متطرفة رأت ضرورة استمرار الحي اليهودي المنفصل (الجيتو) عن المدنية الغربية الرأسمالية المتطورة التي راحت تزيلُ الأحياءَ الدينية والمذهبية الخاصة، في كلٍ اجتماعي لا يعرف الهوية الدينية بل يعرف الهوية المواطنية، لكن الرأسماليات الغربية كذلك لم تـُزلْ جذورَ حكوماتها المسيحية بطبيعة الحال، وبهذا فإن مشروعات الغزو الاستعماري الغربية قوت الدينية التبشيرية والساحقة لشعوب العالم الثالث (الوثنية)! فكانت تلك العلمانية الغربية – اليهودية مبتورة وزائفة. كان هناك لقاءٌ غيرُ مقدسٍ بين ديانتين سماويتين وصارتا استعماريتين! وبهذا فإن الاتجاهات اليهودية المتطرفة وجدت في نمو الاستعمار قوة جديدة لتصاعد دورها، وخاصة أن بعض اليهود أسسوا شركات كبيرة، بحاجة للتوسع والمواد الخام والمستعمرات! هكذا التحمت حركة (التنوير) اليهودية بالحركة الصهيونية وشكلتا الجسمَ السياسي للأشكناز الذين يديرون الدولة العبرية، فلم يُعدْ اليهودي يهودياً فقط في بيته بل في شارعه ومستعمراته وأراضيه! إن قيادة هذه (الطائفة) بالمعنى السياسي للدولة كما تم توضيحه سابقاً، نقلت اليهودَ إلى مغامرةٍ سياسية عالمية محفوفة بالكثير من المخاطر على الشعوب وعلى اليهود أنفسهم، ولم تستطع أن تكون إسرائيل (جيتو) مناطقيا، منفصلا عن محيطها، ولم يستطع اليهود الغربيون أن يكونوا هم كل سكانها، فحدثت تلك التناقضات السكانية والسياسية المتعددة. فانتقلت السياسة اليهودية من محدودية الجيتو السياسية إلى الذيلية للسياسة الغربية (المسيحية)! وكلتا السياستين التوسعيتين قطعتا جذورهما بالديانتين كديانتين إنسانيتين مازال لهما هذا الطابع عند اتباعهما الذين لم يتلوثوا بجراثيم التوسع، وحتى في إسرائيل ظهر أناسٌ لم يشاركوا في صياغة وتنفيذ هذه السياسات، لكن أدخلوا في جوها وغـُسلت أدمغتهم بفعل عوامل كثيرة. فغدت حركة التنوير اليهودية ظلاماً يرفض أن يتغلغل لتحليل الدين وجذوره، ويكتشف في اليهود بشراً مثل غيرهم، فأحاطت بهم الأسلاك الشائكة الثقافية، وتفجرت حروبُ الاقتحام والاستعمار والاستغلال فعجزوا عن التنور والتماهي مع بقية البشر المسالمين حتى ظهرت حركة سلام إسرائيلية تعارض ذلك التاريخ الدامي. كذلك فإن اليهود الشرقيين الذين تعكزوا عليهم من أجل تضخيم العدد السكاني، جعلوهم في المرتبة السكانية الثانية، فالثالثة يحتلها العرب. ففيما يقيم رأسماليو الإشكناز في إسرائيل في المدن المتطورة ويحصلون على ظروف عيش باذخة، يعيشُ الكثيرُ من اليهود الشرقيين في ظروف الفقر والتمييز. (ويتعرض اليهود الشرقيون إلى محنة واضحة على الصعيد الاجتماعي أيضا، فهم معزولون في أحياء قذرة وفقيرة في إسرائيل، إذ يسكن الكثير منهم في مساكن العرب القديمة التي تم هجرها بسبب النكبة، في الوقت الذي يسكن فيه اليهود الأشكناز في أحياء جديدة راقية بعيدة عن أماكن القاذورات والمناطق الصناعية وفضلاتها، إضافة إلى فوارق في التعليم أيضا.)، (المصدر؛ الهامشيون في دولة إسرائيل). وعبر هذا الفقر والمحدودية الثقافية تستثمر قوى التطرف السياسي الإسرائيلي مثل هذه الأوضاع لخلق حركات يمينية متطرفة، كما ظهر حزب(ليكود) الذي هيمن على السياسة الإسرائيلية خلال سنوات عديدة، وهو أمرٌ يشاركهم فيه جيرانهم العرب كذلك. لقد تنامت الانقساماتُ العميقة في المجتمع الإسرائيلي بفضل سياسة السلام العربية واليهودية، والصراعات الداخلية بين القوى السياسية والدينية: (وهكذا عكست الخريطة السياسية والبرلمانية لأول مرة وبشكل جلي التعددية الإثنية والثقافية في المجتمع الإسرائيلي التي كبتتها الصهيونية لعقود طويلة، وحصرتها في ثلاثة اتجاهات رئيسية هي الصهيونية العمالية ويمثلها حزب العمل، والصهيونية المراجعة ويمثلها حزب الليكود، والصهيونية الدينية ويمثلها حزب المفدال. وكان سلوك هذه الأحزاب الإثنية قطاعيا لدرجة كبيرة، خاصة في أمور مثل اقتسام موازنة الدولة، والصراع على وزارة التعليم بين المتدينين والعلمانيين، والصراع على وزارة الداخلية بين «الروس« – كمهاجرين جدد يريدون تأكيد حقهم في المواطنة على أساس المشاركة في المصير- والمتدينين الأرثوذكس الذين يريدون تحديد هوية المواطن بناء على يهوديته التي يفتقر إليها «الروس«.. وهو ما جعل قضايا الصراع الداخلي تحتدم بشدة حول أولويات اجتماعية وثقافية بدت للمحلل بصورة لم تكن بهذا الجلاء في وقت من الأوقات.) موقع إسلام أون لاين. وكما هيمن الاتجاهُ الغربي الإشكنازي السابق الذكر على ميلاد إسرائيل الصهيونية خلال نصف قرن فإن الاتجاهات غير الصهيونية أخذت تتصاعد بقوة لتبدأ تاريخ إسرائيل غير الصهيونية، فمنذ القديم كان هناك قسم من اليهود غير موافق على تشكيل دولة خاصة باليهود، ويعتبرها محرقة تقوم بجمع اليهود لإبادتهم، وهذا الخوف أو الوعي الإنساني، جعل هذا القسم يتعاون مع الحضور العربي الفلسطيني. وقد تكون هذه المخاوف نبوءة ما تجعل قسماً كبيراً من اليهود يتوجهون لسياسة السلام التي بدأت تؤتي ثمارها لولا التطرف المذهبي. كذلك كان اليهود الروس غير المعترف بديانتهم يتطرفون بالدفاع عن هذه اليهودية ولكنهم في عملهم السياسي ينسفون الصهيونية، بقيامهم بخلق مجتمع الإثنيات ذات المصالح المشتركة ويرفضون سيطرة يهود الغرب وعبرهم تم إلغاء تحكم حزبي العمل والليكود في إسرائيل لتظهر خريطة سياسة مختلفة تماماً. وعلى عكس الشائع المتصور فقد لعبتْ السياساتُ العربية القومية والدينية المتطرفة دورها في تقوية المجتمع الإسرائيلي وسياسة حكوماته التوسعية، فمنذ حرب التحرير البائسة سنة 1948حتى آخر الحروب كانت الكوارث تتالى على المجتمعات العربية، وكانت إسرائيل تمتن علاقاتها مع الغرب وتستجلب مساعداته وتعتبر نفسها أداته الحربية، لكن سياسة السلام العربية قلصت هامش المناورة هذا، وجعلت القوى الإسرائيلية تتصارع بقوة، وأوجدت جنين دولة فلسطينية لولا عودة سياسة التطرف الدينية مرة أخرى .
صحيفة اخبار الخليج
27 نوفمبر 2008