القيادات الأوروبية تكاد لا تترك سانحة إلا واستغلتها للترويج لفكرتها القاضية بضرورة إعادة النظر في النظام المالي الدولي. كما أكثر الزعماء الكبار في الاتحاد الأوروبي لاسيما رئيس الوزراء البريطاني جوردن براون والرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي من تحركاتهما على الساحة الدولية لتسويق أفكارهما بشأن مستقبل النظام المالي العالمي بعد إعصار سبتمبر المالي.
وبعد أن زار سركوزي الأكثر حماساً (لأن بلاده الأكثر تضرراً من الرأسمالية المنفلتة التي كان سيجاريها بسياساته المعلنة لولا أن داهمته الأزمة) ومعه رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي واشنطن والتقيا الرئيس بوش لمناقشة فكرة عقد مؤتمر دولي لمناقشة الأزمة وإيجاد حلول لها، توجه الاتحاد الأوروبي نحو عمالقة آسيا وعقد بلدان الاقتصادات الآسيوية الناهضة قمة مشتركة للتنسيق بشأن موضوعات القمة المرتقبة (التي تقرر عقدها في الخامس عشر من نوفمبر 2008) وذلك لحشد التأييد للموقف الأوروبي قبالة الموقف الأمريكي الرافض من حيث المبدأ إجراء تغييرات جوهرية على أسس النظام المالي العالمي الحالية.
إذا النزيف الكبير الذي تعرضت له اقتصادات الاتحاد الأوروبي والذي أجبر البنك المركزي الأوروبي على الخروج عن سياسته النقدية المحافظة والتدخل مرتين بخفض سعر الفائدة ضمن إجراءات يائسة لتفادي سقوط اقتصاداتهم في لجة الفساد.
وهكذا فقد نشأت الأزمة حقائق جديدة على الأرض لم يعد بإمكان التغافل عنها والاستمرار ‘بالنوم في عسل’ اللعبة الرأسمالية التي لم يصدر أي صوت رسمي أوروبي لنقدها قبل اندلاع الأزمة.
ولذلك فإن الطريف في الأمر هو أن الأطراف الرئيسية التي تمثل الخط الأول (الدول الرأسمالية الكبرى) والخط الثاني (الدول الصاعدة والأخرى المتمتعة بفوائض مالية ريعية)، لها مواقف وتصورات متباينة من مسألة الهيكلة الجديدة ‘المتوقعة’ للنظام المالي العالمي الجديد، وذلك على النحو التالي:
- فرنسا التي ترأس الاتحاد الأوروبي تدعي أنها نجحت في تنسيق وبلورة موقف أوروبي موحد عبر عنه رئيسها نيكولا سركوزي بالقول ‘نريد تغيير قواعد اللعبة في عالم المال’، وقد تقدمت لذلك بخطة من 5 نقاط تتضمن دوراً أقوى لصندوق النقد الدولي، ومراقبة وكالات التصنيف الائتماني، وفرض قيود على الإفراط في المخاطرة الائتمانية.
- بالمقابل فإن لألمانيا تصور متغاير عن التصور الفرنسي، هو أقرب إلى السقف الأمريكي الذي لا يريد أي مساس بجوهر النظام المالي العالمي (قواعد اللعبة على حد تعبير سركوزي). وألمانيا على لسان مستشارتها انجيلا ميركل أوضحت بهذا الصدد ‘أن لا مجال لسياسات الحماية التجارية في أي إجراء يتم الاتفاق عليه في واشنطن’.
- مجموعة العشرين للاقتصادات المتقدمة والصاعدة (الأرجنتين، استراليا، البرازيل، كندا، الصين، فرنسا، ألمانيا، الهند، أندونيسيا، إيطاليا، اليابان، المكسيك، روسيا، جنوب أفريقيا، كوريا الجنوبية، تركيا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي والمملكة العربية السعودية)، لها مواقف متباينة، في حين يطالب بعض أعضائها مثل الأرجنتين والبرازيل بأن تحل مجموعة العشرين محل التجمعات المغلقة للدول الغنية وتحديداً مجموعة السبع بحيث تصبح المنتدى الأول لإدارة النظام المالي العالمي.
- أفرزت الأزمة ائتلاف جديد للاقتصادات الناهضة يضم البرازيل وروسيا والهند والصين ويحمل اسم ‘بريك’ الذي يمثل الحروف الأولى من أسماء الدول الأربع ”BRIC”، وقد طالب هذا التجمع الجديد في أعقاب اجتماع، تم عقده لهذا الغرض في البرازيل في السابع من نوفمبر الجاري بـ ‘إصلاح المؤسسات المتعددة الأطراف كي تعكس التغيرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي والدور المحوري بشكل متزايد الذي تلعبه الآن الأسواق الناهضة، وأنه لابد من توسيع منتدى الاستقرار المالي الذي يضم مجموعة السبع وبعضاً من الاقتصادات الكبيرة الأخرى بشكل فوري لضم الدول الناهضة الكبيرة.
(وكانت قد تمت في شهر مارس الماضي زيادة حصة التصويت للدول الناهضة الكبيرة ومنها البرازيل وروسيا والهند والصين ‘بريك’ والمكسيك وكوريا الجنوبية، في صندوق النقد الدولي. إلا أن هذه الدول وغيرها من الدول النامية ذات الاقتصادات الناهضة لازالت تعتبر أن هذا التعديل لم يذهب إلى مدى بعيد بما يكفي للتأثير في قرارات الصندوق).
وكما هو واضح فإنه باستثناء موقف دول ‘بريك’ الذي شدد على ضرورة إصلاح المؤسسات المتعددة الأطراف (أي بما يشمل قطاع العلاقات التجارية والاستثمارية الدولية الذي تنظمه منظمة التجارة العالمية)، فإن مواقف أطراف التفاوض الدولي بشأن معالجة الأزمة العالمية، لم تتجاوز حدود إصلاح النظام المالي العالمي، وتمت الإشارة بصورة متكررة إلى اتفاقية بريتون وودز لعام 1944 وإعادة النظر في العلاقات والتوازنات النقدية (والميزات الاقتصادية ترتيباً) التي أنشأتها.
ولم يجر التطرق للنظام الاقتصادي العالمي الذي أنشأته موازين قوى ما بعد الحرب العالمية الثانية وعن الحاجة إلى إعادة النظر في القواعد المنظِّمة له وخاصة منها قواعد النظام التجاري الدولي الذي تمثله منظمة التجارة العالمية التي حرصت الدول الرأسمالية المتقدمة على نقل الامتيازات التي أمنتها لنفسها في الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية (جات) لعام 1947 ونقلتها إلى متن اتفاقيات وتشريعات منظمة التجارة العالمية في عام .1995
ويمكن تلخيص مواقف أطراف مجموعة العشرين وهي تدخل اجتماع واشنطن على النحو التالي:
- مجموعة (BRICs) تطالب بإعادة هيكلة النظام المالي العالمي ومؤسساته (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية).
- الولايات المتحدة تريد الإبقاء على حرية الأسواق غير المقيدة وعلى الميزات التنافسية التي تتمتع بها سوقها المالية والإبقاء على هيمنتها على صندوق النقد والبنك الدوليين، مع استعدادها للتفاوض بشأن تدابير وقاية وضوابط فاعلة لحركة رؤوس الأموال في أسواق المال والنظام البنكي.
- الاتحاد الأوروبي متغاير المواقف بين طموح فرنسي لتجاوز ترتيبات اتفاقية بريتون وودز وإنشاء ‘بريتون وودز’2 برسم حقائق 2008 وليس عام 1944 وبرسم ما تمخضت عنه الأزمة من تبدلات في ميزان القوى الاقتصادية، وبين تأييد ألماني للموقف الأمريكي، وحذر بريطاني وعدم استعداد للتخلي من الامتياز الذي يتمتع به سوق لندن كمركز مالي عالمي مفتوح ومستقطب لرؤوس الأموال النهائية والترانزيت.
ومع أن الاستحقاق واضح أمام الجميع وهو:
- تحجيم الأزمة المالية وتوغلاتها صوب الاقتصاد الحقيقي.
- وضع ضوابط مالية أكثر صرامة.
- وضع مقاربة عالمية ماكرواقتصادية.
إلا أن دخول الأطراف المختلفة في مجموعة العشرين للاجتماع بأجندات مختلفة، لا يدع مجالاً للتفاؤل بشأن التوصل القريب لحل للأزمة المالية والاقتصادية العالمية.
إنه بالتأكيد لأمر إيجابي أن تتخلى الدول السبع الصناعية الكبرى (الولايات المتحدة، ألمانيا، اليابان، فرنسا، بريطانيا، كندا وإيطاليا) عن ترفعها وتشامخها (Superiority) وتقبل بتوسيع الحكومة الإدارية (التنسيقية) العالمية لتشمل بلدان الاقتصادات الناهضة، ولكن الأهم هو ضرورة اعترافها بعجز آليات ومؤسسات بريتون وودز لعام 1944عن مواكبة العصر. فقد بدا صندوق النقد الدولي بموارده التمويلية البالغة 250 مليار دولار، وبعملته الحسابية الصورية (Special Drawing Rights -SDR) عصفوراً إبان الأزمة. وإنه لابد من إعادة هيكلته إدارياً ومالياً بما يستوعب القوى الاقتصادية الصاعدة، وإنشاء عملة عالمية توفر الاستقرار في المعاملات الدولية بعد أن ثبت عدم جدوى الاعتماد على عملة واحدة كالدولار الأمريكي.
سقف التوقعات كما سقف الممكنات سيبقى خفيضاً يراوح حول عتبة الإصلاح المالي الدولي دون التمكن - حتى اللحظة على الأقل - من النفاذ إلى صلب الإصلاح وهو النظام الاقتصادي العالمي، وذلك بحكم موازين القوى التي وإن تغيرت إلا أنها لازالت تحفظ لعمودي الاقتصاد العالمي، الولايات المتحدة وأوروبا قوتهما وامتيازاتهما.
صحيفة الوطن
26 نوفمبر 2008