يعيش الاقتصاد في البحرين حالة من التناقضات غير قادر على الخروج منها، فهو يقول إنه اقتصاد ليبرالي حر، ومع هذا فالدولة تمتلك 80% منه. ومحاولته هذه للتوفيق بين اقتصاد حر وموجه حكومياً، تثير الحيرة وبالتأكيد فإن وضع الشركات العامة أخذ يتغير مع بدء التحولات السياسية، فأخذت الرقابة تتصاعد حولها، لكن لا نستطيع القول إن الرقابة محكمة، أو عميقة، ولا شك كذلك بأن الرقابة نشاط سياسي تاريخي، فهي لا تظهر دفعة واحدة وتحتاج إلى تراكم التجربة، وتقتصر العملية الآن على نشاط برلماني محدود، لم يُدعم بنشاطات جمعيات سياسية واقتصادية وباحثين ونقابات. ويكفي من انفراط الرقابة وحلقاتها الخسائر المالية الكبيرة من مال العاملين فيما يُسمى هيئات التأمين العامة.
وقد بينتُ في العديد من الكتاباتِ السابقةِ مسألة التضاد العميق بين القطاعين العام والخاص، وهي تناقضاتٌ عميقة ومحورية في كل بلدان العالم الثالث، نظراً لطبيعة تطور الرأسماليات الشرقية التي تنهض فوق قطاع كبير تاريخي، لكنها تأخذ أشكالاً وطنية حسب ظروف كل منطقة وشعب. وتعبر أوضاع السوق العامة في جذورها السكانية بضعف دخول العاملين ضعفاً كبيراً قياساً بدول المنطقة وبالمداخيل الوطنية كذلك وبضعف الرقابة العامة على أموال الدولة أيضاً، وضعف مداخيل العاملين هو من أهم الأسباب لضعف الرأسمالية الوطنية. فهناك أكثر من 160 ألفا من السكان يتقاضون أجوراً في حدود مائة دينار، ونصف العاملين في القطاع الحكومي تتراوح رواتبهم بين 200 – 300 دينار. و18 ألف بحريني في القطاع الخاص أجورهم في حدود 200 دينار. 60% من معاشات التقاعد لا تتجاوز 250 ديناراً. وجود فوارق بين أجور الرجل والمرأة فالرجل أكثر بـ 60 ديناراً في القطاع الحكومي وفي القطاع الخاص ضعف هذا المبلغ! وبالنسبة إلى التباين بين أجور الرجال والنساء يعبر هذا عن جانب العراقيل التي تـُوضع أمام النساء للدخول في سوق العمل، ويمثل – أي هذا التباين – شيئاً بسيطاً عن الأوضاع المتردية لهن، خاصة في غياب الأعمال لهن، ووجود البطالة الواسعة لهن. في رياض الأطفال تبدأ الأجور عند 40 ديناراً ولا تتجاوز المائة! وحالات رياض الأطفال تعبر عن صعوبات المعيشة وعن الرغبة الملحة في البحث عن أجور في فئات متعددة من النساء، بعضها متوسط الدخل يضعُ أبناءهُ في هذه المدارس الخاصة، لكي يطور دخله في جهات أخرى، والبعض الآخر يبحث عن عملٍ مهما كانت الأجور لكي يبقى على قيد الحياة.
ربما يمثل ذلك عينة من طبيعةِ اقتصادٍ غير مخطط وغير منسقٍ بين أجزائه، فهو يعيشُ حالاتٍ من النمو الكبير ومن التسيب والاضطراب والتصادم والخلل، تؤسسُ ذلك مصالح داخل كل مؤسسة لا تنسق ولا تخطط مع مؤسسات أخرى. فتلك الملايين الضائعة في الاستثمارات الداخلية والخارجية كانت المدرسات الشابات بحاجة لشيء منها، بل كان العاملون بحاجة إليها ليخلقوا مشروعات لهم ويزيدوا من دخولهم. إن كل وزارة وشركة عامة وشركة خاصة تعمل لمصلحتها الخاصة، الكل يحاول أن يكون عمله أو اقتصادة متقناً ومربحاً ومنتجاً، في ظل خططه الخاصة، لكن هذا يصطدم مع اقتصاد ليس فيه أي خطة. فلا بد من مايسترو يقود كل هذه الفرق التي تعزف على مصالحها الخاصة وخططها الخاصة، فيحدد لها القطاعات الاقتصادية الأكثر أهمية، فلديه قراءة مستقبلية عميقة، وغدت مثل هذه القراءة أكثر وضوحاً الآن بعد الأزمة المالية العالمية، حيث يجب أن يتجه العزف نحو المصانع والورش وشركات التقنية المتطورة، ونحو الاستثمار في عمالتنا الوطنية فهي المستقبل، ويمكن للمايسترو التخطيطي أن يتجاوز تأثيره في الشركات العامة والخاصة ومصالحها الضيقة فينظر صوب مصالحها البعيدة ويكبح من تطرفها في جانب ويقوي اعتدالها في جوانب أخرى.
إن الرساميل الضخمة التي وُضعت في العقار ضاع قسمٌ منها وسوف يضيعُ قسمٌ آخر، وكان تدفق الأرباح الضخم السابق يقابله الآن تراجع الأرباح وتصاعد الخسائر. لكن الاقتصاد الذي يصلحُ نفسَه بتلقائية وعفوية تتلاحق عليه المشكلات، فيفقد فوائضه التي أراد أن يقوي نفسه بها، بل قامت بإضعافه. إن العفوية والتلقائية المطلقتين لم تعودا قادرتين على إدارة أي اقتصاد، وهما تسببان طفرة فوضوية في فترة وانكماشاً حاداً في فترة أخرى. ومثل أي اقتصاد يتعرض لانكماش وخلل فإن العلاج هو في تقوية الإنتاج، عبر تقليل التوجه للنشاط البنائي والعقاري، والبذخي، وتصدير الرساميل والأجور للخارج، وتوسيع مجالات تشغيل العاملين المحليين، وتعميق حضور الرساميل والأجور في السوق الداخلية. إن اقتصاد الفندقة والعمارات والشقق والتهام المصائد والمزارع والورش، وتقزيم التعليم والعلاج، يجب أن يُفرمل، لكن لا يوجد التخطيط الذي يقوم بذلك، فهذه كله متروك للسوق وللنصائح والثقافة التجارية.
إن الكلام والنصائح والارشادات لا تفيد في مثل هذه الأوضاع الخطرة للأسواق، بل لابد من جهة حكومية تقوم بدرس ذلك كله. كان المعيار لديهم هو الحصول على أقصى الأرباح، فتتسرب الرساميل نحو جوانب الاقتصاد ذي الربح السريع، على فرضية أن رأس المال جبان ويحب الربح ويكره الخسارة، لكن الخسارة جاءت بقوة فيما يتم التوجه إليه باتساع كبير وشهية عظيمة. ولا تعرف الآن الإجراءات لمواجهة الخسائر والركود، لكن يتوقع أن المسيرة العفوية نفسها للاقتصاد سوف تستمر، وتغيب الرؤية البعيدة المدى، فسوف تتوجه إجراءات معالجة الأزمة نحو تسريح عاملين وخاصة المحليين وتقليص النفقات والمشروعات العامة ونفقات وزارات التعليم والصحة والبلديات وغير ذلك من معالجات آنية قصيرة. لكون المسار يعكس نفسه ويصحح نفسه من خلال المصالح السائدة فيه وذات التفكير الاقتصادي الخاص المعزول عن الجزر الأخرى. في حين تتطلب رؤية الركود الذي قد يتحول إلى أزمة كبيرة إلى توسيع العمالة المحلية ورساميل الإنتاج الوطنية وتقليص الاعتماد على الخارج عمالة وتقليص بناء الفنادق والعمارات والجزر السياحية. من جانب الإجراءات العفوية سوف تمكن الوزارات من حصول على نقد آني لكنها تبقى معالجة نقدية ورقية سرعان ما تـُواجه بأزمةٍ متفاقمة على الأصعدة الاقتصادية المختلفة، لأن كل قطاع سوف يقوم بتقليص نفقاته وأعماله، مما يوسع الركود ويعمق الأزمة. لكن حين تكون الإجراءات مخططة ومدروسة وغير متسرعة وتتوجه نحو تقوية دخول المنتجين والعاملين والصناعيين والعمليات الاقتصادية الوطنية الأخرى، وتتقشف فيما عدا ذلك، فسوف يعود هذا بتطور غير آني لكنه متجذر وقوي في الأرض.
أخبار الخليج 25 نوفمبر 2008