“لأن المصائب لا تأتي فرادى، بل متتالية أو دفعة واحدة” ان صح قول هذا المثل العالمي، فكأنما لم ينقص عالمنا العربي من أزمات ومشاكل متزايدة ومتفاقمة سوى تفاقم مشكلة قراصنة البحر الصوماليين في اعالي البحار قبالة السواحل الصومالية وغيرها من الممرات البحرية الأخرى كخليج عدن، لا بل وصلوا إلى المحيط الهندي على بعد اكثر من 800 كلم من السواحل الكينية مهددين بذلك خطوط الملاحة التجارية البحرية الدولية انطلاقا من الخليج أو الهند أو حتى الشرق الأقصى واليابان ومرورا برأس الرجاء الصالح، وهي الخطوط التي تسلكها عادة السفن التجارية المتجهة ليس لافريقيا أو البحر الاحمر فقناة السويس فحسب، بل إلى أوروبا والولايات المتحدة.
كانت آخر ضحية – فريسة من ضحايا القراصنة الصوماليين هي ناقلة النفط السعودية العملاقة “سيريوس ستار” المملوكة لشركة “أرامكو” وقد تم اختطافها في عرض البحر الهندي وتضاربت الأنباء والتقديرات حول توقيت وتاريخ اختطافها، لكنها اعتبرت الفريسة الأكبر منذ بدء عمليات القرصنة الصومالية التي صاحبت انهيار الدولة الصومالية عام 1991 وتفجر معارك الحروب الاهلية المتتالية على اثر سقوط نظام الجنرال محمد سياد بري اليساري، في حين اعتبرها مراقبون آخرون انها الفريسة – الضحية الاكبر في عمليات القرصنة على امتداد التاريخ المعاصر.
وعلى الارجح فانه بالفعل لم تكن عمليات القرصنة البحرية الدولية في تاريخنا الحديث والتي كان العرب انفسهم من روادها حتى داخل مياه خليجنا العربي بهذا الشكل من الخطورة والاتساع اللذين بلغا حجمهما ووصلا إلى ذروتهما مع اختطاف الناقلة النفطية السعودية، فقد كانت اعمال القرصنة في السابق لا تعدو ان تكون شكلا من اشكال وعمليات البلطجة الفردية أو يقوم بها مجاميع من قطاع الطرق البحرية ولم ترتبط في الغالب بأوضاع ومآس سياسية محددة، لدول أو دول محددة لكنها على ايدي قراصنة البحر الصوماليين الوجه الآخر لمأساة انهيار دولة وصراعات اهلية وقبلية عاصفة ومتصلة لشعبها على اراضي الصومال منذ نحو 20 عاما.
ولولا هذه المأساة بكل اشكالها لما جرت هذه القرصنة البتة ولكانت في اسوأ الاحوال مجرد عمليات صغيرة محدودة ومتفرقة لا تشكل خطورة كبرى، كما يحدث في أي وقت في بحار وقبالة كل سواحل الدنيا.
ويعتبر اختطاف الناقلة النفطية السعودية بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير للفت أنظار العالم لما باتت تشكله عمليات قراصنة البحر الصوماليين من خطورة واتساع أو توغل مذهل إلى أعالي البحار، حتى قدر المراقبون المسرح البحري لهذه العمليات قبالة سواحل الصومال وكينيا بأكثر من 1،1 مليون ميل مربع، بما يعادل 4 مرات من حجمي البحر الاحمر والبحر المتوسط معا. ويقدر ثمن الناقلة – الضحية الضخمة بـ 150 مليون دولار وتحمل شحنتها نحو مليوني برميل نفط، وهو ما يعادل 25% من الانتاج السعودي اليومي، وتصل قيمة هذه الحمولة بالاسعار الحالية إلى 100 مليون دولار.
وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل علق على هذه العملية معبرا عن سخط وغضب بلاده من هذا العمل الاجرامي: “ان القرصنة مثلها كمثل الارهاب، داء يضرب العالم” ثم جدد هذا الوصف في اليوم التالي مضيفا إليه التأكيد برفض بلاده الحازم التفاوض مع القراصنة، ومؤكدا في ذات الوقت عن حق “ان المفاوضات ودفع الفديات من شأنها تشجيع القرصنة ولا تحل المشكلة” وهذا الموقف الصائب هو الذي لم يتمسك به للأسف الكثيرون من ضحايا السفن المخطوفة السابقة منذ بداية تفاقم عمليات القراصنة الصوماليين في مطلع العام الجاري والذين يقدر عددهم بالآلاف ويقودهم ويرشدهم في الغالب رجال خفر سواحل الدولة الصومالية المنهارة، وقد حصلوا على 30 مليون دولار منذ مطلع السنة الحالية 2008، يحدث ذلك بينما الميليشيات الاسلامية في ظل الفوضى الداخلية العارمة تبسط سيطرتها على جل أراضي الصومال ولم تبق سوى العاصمة مهددة بالسقوط، والشعب يعيش بغالبيته العظمى في مجاعة لا مثيل لها، والقراصنة المجرمون يجمعون الملايين من حصيلة فدياتهم، ولكن ليس من اجل هؤلاء الجياع، بل من اجل ثرائهم الخاص، ولو كان العديد منهم ينحدرون في الاصل من الطبقات الفقيرة.
ويحدث ذلك ايضا فيما اثبتت كل الجهود الدولية العسكرية فشلها بامتياز في حماية الطرق والممرات البحرية من قراصنة البحر الذين عاثوا فيها فسادا أمام مرأى وعجز المجتمع الدولي برمته، فلا الأسطول الخامس الأمريكي ولا “الناتو” ولا السفن العسكرية الأوروبية ولا السفن العسكرية المرافقة لسفن المؤن الغذائية العالمية المتجهة إلى إنقاذ مليوني جائع من أبناء جلدتهم الصوماليين والمهددين بالهلاك قادرة على وضع حد لفلول هذه الجرذان البحرية المنتشرة في أعالي البحار وقبالة السواحل الصومالية.
لقد وصف وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل “ان القرصنة مثل الارهاب” والأصح والأدق لو قال هي الإرهاب بعينه، مثلها في ذلك مثل اختطاف الطائرات مادام ضحاياها ليس الشركات أو الدول المالكة للسفن لخسارتها ماليا بل حياة طاقم السفن في حالة لم يستجيبوا لمطالب الخاطفين فيقرر القراصنة اغراق السفينة أو لأي تصرف أو سوء تقدير من ربابنتها، ومادام ضحاياها إذا ما كانت السفن محملة بمعونات الاغذية لشعبهم أو الشعوب الأخرى جوعى ينتظرون عطف المجتمع الدولي. فأين قوات التدخل السريع إذن لمواجهة هذا الشكل من أشكال الإرهاب العالمي؟ أم يا ترى هي فالحة فقط في القضايا السياسية فقط؟
والحال أن هذه المشكلة العويصة لن تحل إلا بحل مأساة انهيار الدولة والمجتمع في الصومال، حتى لو تطلب الأمر إذا ما تفاقم الوضع أكثر مما هو متفاقم عليه وضع الصومال برمته تحت الوصاية الدولية المؤقتة حتى تميل الكفة لصالح العقلاء من كل فرقاء وأطراف الأزمة الصومالية ويمكن إعادة بناء الدولة من جديد على أسس وطيدة.
أخبار الخليج 24 نوفمبر 2008