تعبير الرأسماليات السوداء يـُقصد به قوى المال التي تظهر من خلال الفساد السياسي أو التجاري، أي حين تظهر أو تتعيش قوى المال على القنوات الحكومية، وحينئذٍ لا يكون نموها إلا في السرية وليس في العلنية.
ومن هنا نجد ان الشركات والبنوك تعلن أرباحها ومخصصات مجالس إداراتها ومبالغ إعلاناتها ومساعداتها، في حين إن جهات كثيرة تتسربل بالصمت وتجمع النقود الكثيرة في الظلام، من دون معرفة المجتمع ورقابة البرلمانات.
لا يعني ان الرأسماليات البيضاء تشكل أرباحها بغير استغلال، ولكن حساباتها تكون معروفة خاضعة للتدقيق وللجان المحاسبة في حالة أي شبهة.
وهذا بخلاف الرأسماليات السوداء، التي تجري عملياتها في الخفاء، ويحدث تداخل بين أموال الشعوب الضائعة وبين دهاليز الشركات الخاصة التي تظهر فجأة، ويكون على مجالس إداراتها شخصياتٌ مجهولة، أو كانت صاحبة مطاعم ودكاكين بسيطة، إن لم يكن من الشحاذين والمفلسين الذين تطاردهم المحاكم لعدم دفع ديونهم، أو كانوا لاجئين في الخارج، أو كانوا أصحاب مكاتب متواضعة، أو شخصيات مجهولة، أو ربات بيوت لا يعرفن ما هي الأحزاب وتخصصن في صنع الكباب، وبين غمضة عين وانتباهتها صاروا من أصحاب الملايين.
كذلك هناك المصادر الدينية والسياسية للرأسمالية السوداء، فالأحزاب القومية والنضالية والدينية أقامت علاقات مع الأنظمة الدكتاتورية الشرقية وحصلت في الخفاء على إكراميات كبيرة، ولا أحد يعرف أحجامها، وككل الأنظمة الشرقية ليست هناك جردة حساب وهناك بنود غامضة مثل (مساعدات للأحزاب الشقيقة ومساعدات لحركات النضال) وغيرها من المسميات التي تضيع فيها دقة الحساب، ويغدو المعطي والمعطى إليه مجهولين، يضع الأول منهما أرقاماً لا تخضع لمراقبة برلمان، فيما الثاني يمدح بقوة كبيرة دولة الإيمان أو دولة الاشتراكية أو جمهورية الفداء القومي.
أموال الشرقيين ضائعة في هذه السراديب المظلمة، فلا توجد برلمانات مدققة ولا صحافة حرة تكشف المستور، ويمكن لهذه الرأسماليات أن تتداخل مادامت السرقة من المال العام بينها مُحللة، ويمكن أن تتشكل جبهات وتجمعات، ودول.
إن معاناة الرأسمالية الخاصة التي تكشف حساباتها تكون كبيرة، فهي بين مطارق دول مهيمنة تمنع توسعها وحرياتها، وبين أحزاب (ثورية) تترصدها وتنتقدها.
تعتمد ايديولوجيات دول وأحزاب الرأسماليات السوداء على إخفاء المعلومات عن دخولها، فهي مستعدة لأن تتكلم عن كل شيء بقوة كبيرة وعن الثورات والتضحيات الجسام، إلا عن دخولها وأموالها الخاصة وكيف حصلت عليها وراكمتها.
إن هذه المنطقة الحرام تجمع الدينيين والحكومات والمناضلين الشموليين وقادة الفكر البيروقراطي، والأحزاب التي تكونت في مجاري الحكومات الشرقية المختلفة، فقد كان الكل أصفاراً ولكن عبر المال والدعاية صاروا قادة دولٍ وأحزابٍ ومفكرين عظاماً.
في هذا المجرى المعتم ليس ثمة جردات حساب من شركات التدقيق المالية والسياسية التي تـُمنع من الاقتراب، فتسود الأفكارُ الشمولية وتـُعادَى الليبرالية وتـُكرَه الديمقراطية ويُرفع اسم الفرد البطل الدكتاتور، ويغدو الإسلام طائفية، والماركسية ستالينية، والناصرية عبادة الفرد.
حين تجد تمجيداً للنكرات ومبالغات وتعظيماً للشخوص وأشعاراً مبتذلة عن أصحاب المعالي، وكتباً عن بطل الأمة ومنقذ الشعب وسيد المرحلة، فتأكد أن رأسمالية سوداء تنمو في هذه التربة.
وفي الرأسماليات الحرة غش وفساد ولكن الدفاتر مفتوحة، والبرلمانات شغالة والصحافة تعيش على كشف الفساد والفضائح، ولا يقدر وزير أو موظف استبدادي معقد أن يمنع كتاباً أو يلغي ترخيص جريدة.
والصحف سباقة إلى التعرية، وكل موظف مرعوب من الخروج على نظام التدقيق العام، ومهما جرى من ألاعيب في دهاليز السلطة فإن أي خيط بسيط قادر على قلب حكومة وحل برلمان.
لكن في الشرق كل شيء تمام، وتستطيع أن تغدو عضواً في مجلس الأمة بقصيدة مدح، وأن تبصم على الميزانيات الكوارث، وتصبح من الأغنياء الكبار كلما زاد صمتك ومدحك.
والرأسماليات السوداء لا تنتج حداثة، أو نهضة، بل هي تقود للكوارث، وفساد الجيوش والإدارات، فلا يستطيع وطن مواجهة غزو، أو توحيد شعب. ولم تكن خسائر العرب أمام إسرائيل إلا بغياب الرأسمالية الحرة، وعملقة الحكومات ومؤسساتها ومنافقيها وصحافتها السوداء.
ومهما تنامت الرأسماليات في الشرق وغدت عملاقة فإن يوم الحساب لم يأت بعد، ويحل عهد الكوارث ذات يوم حين تنضب المواد الأولية الثمينة أو تتدهور أسعارها على نحو هائل، فيغدو ذلك مثل الطوفان والكوارث الطبيعية الأخرى، ولكنها هنا كوارث اجتماعية، إنسانية، صنعتها ايدي الإنسان نفسه.
وتكفي قشة البعير القاصمة فتترنح أنظمة بـُنيت على السرقة، ويتحول المنافقون بين ليلة وضحاها إلى أكبر الناقدين والثوار بعد أن جمعوا جبال الأموال، ويطالبون بالمزيد من القضاء على أنظمة الجهل والفقر.
وفي أنظمة بُنيت على عدم المعرفة وعلى غياب دفاتر الحساب الواضحة وعلى التداخل بين السلطات، وعلى عدم حرمة المال العام، لن يكون هناك سوى النفاق.
وأخطر الجوانب في العمليات الاقتصادية السوداء هي تجارة السلاح والمخدرات والجنس، وإذا كانت الدول الغربية وهي المصدر الأكبر للسلاح تخضع لعملية مراقبة اجتماعية بعض الشيء، فإن الدول الشرقية الكبيرة ومصدر السلاح لا تقوم بهذا، مثلما أن تجارة المخدرات منتشرة في الكثير من الدول، معبرة في الشرق عن قوى العصابات والدول وفي الغرب عن قوى المافيا، مثل تجارة الجنس الأكثر وضوحاً والمنتشرة باتساع متزايد مع توجه الدول الشرقية المتزايد للتجارة.
وغالباً ما يتم التستر على العمليات الاقتصادية السوداء، التي تؤدي إلى ثورات هائلة وسيطرات على القرارات السياسية.
صحيفة اخبار الخليج
23 نوفمبر 2008