المنشور

بين العراق والبحرين


في فجر التاريخ حين غدا العراقُ مركزاً حضارياً استطاع أن يؤثر في البقاع المحيطة حوله، ولكن بأدوات الحضارات القديمة غزواً وسيطرة ولعلها صفة تمتد حتى إلى الحضارات الحديثة.
وكان ظرفُ النهر الكبير العملاق أقوى من الصحارى، والهضاب، ودول الينابيع والأنهار الصغيرة، فما بالك حين تكون الحضارة نتاجَ نهرين كبيرين؟
لقد تمكن العراقُ من صنع إمبراطوريات، فيما كانت الدول المحيطة في علم الغيب أو ظهرت وهي مفككة ومبعثرة، ولم تتمكن من الظهور حتى شاخت حضارة العراق القديمة، أو تمزقت داخلياً بفعل الصراعات الاجتماعية غير المحلولة.
وكان الرأسان العراقي والفارسي في صدام مستمر منذ ذلك الوقت، فقد جاءت الحضارة الفارسية بعد قرون، ووضعت عاصمتها بقرب رأس العراق القوي، في المدائن، وهيمنت في المشرق كله، ثم جاء العربُ وأعادوا للعراق سيطرته، وبعدت عاصمة الفرس شمالاً، لكن عاد الفرس من جديد عبر بني بويه وغيرهم، وظلت إشكالية الصدام بين الرأسين الكبيرين لمنطقة شمال الخليج مستمرة ليومنا هذا.
لكن عراقَ الحضارة القديمة والحضارة الوسيطة وجد بلداً صغيراً يتحداه بشكل مستمر، وهو بلد البحرين الذي تعددت أسماؤه وتباينت خرائطهُ ولكن ظل البلد الجنوبي البحري، يظهر مرة على شكل سمكة بحرية تسبح بحرية في الخليج، وأحياناً كريح جنوبية عاصفة.
ولهذا فإن حاكم العراق المتأله البابلي حذر بشدة حاكم البحرين الذي يعيش في جزيرة صغيرة من قوة بطشه، وإنه قادر على غزوه وهو في ملجئه المائي الآمن.
وحدث هذا الغزو وتمت السيطرة، ولكن راحت الجزيرة الصغيرة تغزو الحضارة الكبيرة الغازية، فتحولت إلى مكان مقدس، والبوابة الكبرى لعالم الأموات، وهو عالم شديد القدسية في الحضارات القديمة، وظهرت ديلمون كبلد القبور والتلال، أكبر مقبرة مقدسة، حيث تنزل الأرواح إلى العالم السفلي، وتتطهر هناك.
في أدب العراق القديم كانت الآلهة هي التي تتحكم في المصائر وكانت لها أسماء كثيرة، وقد أُدخل إله ديلمون أنكي، إله الينابيع، في محفل الآلهة النهرية المسيطرة، فتم الاعتراف بالينابيع جنباً لجنب مع الأنهارـ أي الأقاليم التابعة مع المركز.
(أجاب أدابا آنو:
سيدي، كنتُ أصطاد السمك
وسط البحر
لمنزل (أيا).
لكنه نفخ البحر وجعلهُ عاصفةً
وهبت الريحُ الجنوبية وأغرقتني!
فأُجبرتُ على المبيت في منزل الأسماك)، (من قصة أدابا العراقية القديمة).
في العصر العباسي أتخذ إقليمُ البحرين مواقف متشددة أكثر، وصار قلبَ المعارضة، وما كان ريحاً جنوبية قوية، وسمكاً مستقلاً، غدا حركات سياسية رهيبة في أساليبها، باطشة لا يقل عنفها عن المركز.
وجد الخوارج مساحة هائلة من البصرة حتى عُمان، وظلوا قرناً كاملاً يناوئون الدولة الأموية، ويقدمون جحافل وقوافل من الموتى، من دون كلل أو ملل، حتى أنهكوا الدولة الأموية وصعدَ الضحاكُ آخر زعيم كبير خارجي في هذه الدولة إلى الكوفة واقترب من دمشق، فكانت تلك خاتمة الأمويين ولكن على أيدي آخرين غير منهكين وأكثر تحضراً.
ومع ذلك فإن البحرين لم تتوقف عن دورها المعارض المركزي الذي يتحدى الإمبراطورية قريباً من خاصرتها، ويقترب من مركزها من دون نجاح في السيطرة عليه.
ظهر القرامطة ليصارعوا دولة الخلافة قرناً ونصف قرن وجعلوا من اسم البحرين مرعباً يمتزج بالكفر والمشاعية.
وهذا الدور العجيب المناكف المستمر الذي لا يهدأ في الاحتجاج والمعارضة جعل من اسم البحرين ملفتاً، فلماذا دون أقطار العالم الإسلامي الواسعة يبقى هذا الاسم ويتحدى رغم صحراوية المكان وبُعد الزمان؟
لم يقم الباحثون لهذه القضية بحفر كبير.
منذ بداية الدولة الإسلامية صارت الجزيرة العربية مقسمة بين ولدين احدهما الحجاز وهو الابن المدلل وثانيهما شرق الجزيرة وهو الابن اليتيم الفقير، فأغدق الخلفاء الأمويون الأموال على الأسر الغنية في الحجاز، كما أن موسم الحج أضاف لهم موارد كبيرة أخرى.
وبهذا نفهم حوادث الردة وحروب الخوارج وحقد القرامطة على الحجاج وعلى الأمكنة المقدسة وأخذهم الحجر الأسود وإلقائه في أحد الأمكنة في الإحساء.
لقد كان شرق الجزيرة مصدر القلاقل والثورات نتيجة لسوء توزيع الثروة، ولم تحل الدولة العباسية والدول التي بعدها هذه المعضلة، وحتى في زمننا النفطي الذي أغدق الثروة نجد الكثير من الطرق خاصة الفرعية الكثيرة غير مرصوفة في بلدان نفطية، ونراها معتمة ونخيلها محطم ومحطات تحلية المياه شحيحة.
كانت اضطرابات منطقة الخليج عموماً ناتجة عن نشوء مراكز من خارجها تسيطر عليها، وتنقل ثرواتها إلى مناطق بعيدة وعواصم تعيش برفاهية أو بمشروعات سياسية كونية أو مناطقية، مما جعل مستويات الغنى الفاحش والفقر المدقع تتجاور، وتغدو أداة لسياسات متطرفة أو مغامرة، فيظهر الغازي السفاح جنباً لجنب مع حاكم الدولة الصغيرة المسالم لكن المبعثر للأموال، الذي لا يجعلها تتجذر في بلده والمنطقة فمرة تسرق على هيئة غنيمة حروب أو تضيع في التداولات المالية الغامضة، أو تغدو رشا للحركات والدول.
لم تستطع الدول المطلة على الخليج أن تعقد مؤتمرات تناقش فيه أوضاعها السياسية المحفوفة بالمخاطر رغم كثرة الحروب والمشكلات.
بل انها لم تعقد مؤتمرات تقرأ تاريخها وتكشف أسباب هذه الخصومات على مدى التاريخ وتفاقمها في الوقت الراهن.
وفي كل مرة يظهر (الرجل المريض) بينها الذي يتم تقاسمه أو جعله يموت.
والبلد الذي كان بينها رمز المركزية وهو العراق صار رمز التشتت وبدايات الدويلات.
لقد تكاثر نموذج حاكم بابل المتأله الذي يريد أن يخضع البلدَ السمكة ويضعها في مقلاته السياسية، والآن تكاثرت الأسماك وكثـُرت مزارعُها وآبارها
.