تترابط مكونات كل بلد عربي وإسلامي المتعددة، لكنها تؤخذ بتناقض ولا تـُفهم العملية التركيبية لها، فعناصر الوطنية والعلمانية والإسلام تتكامل ولا تتناقض.
فإن العراقي يقول: اتركونا نحل مشاكل بلدنا وحدنا، نحن العراقيين نستطيع ذلك، فلتـُرفع الأيدي كافة عن بلدنا، ونحن نقرر ذلك!
في كلمة العراقي الوطني السياسية المباشرة التقريرية شعارات محددة، فالعراقي لا يريد أي دول خارجية تسيطر عليه، وتغدو لها مركزية فوق إرادته، سواء كانت هذه الدول مرجعيات مذهبية أو دينية أو قومية أو غربية!
وهو العراقي الوطني الذي يقرر مصير بلده ووضع القوات الأجنبية والاتفاقية الأمنية، من خلال أدواته السياسية المنتخبة.
واللبناني الوطني يقول الكلمة نفسها، بظروف لا تقل سوءا عن زميله العراقي، فيطلب من الأحزاب كافة الالتزام بالتبعية للبنان، والانضواء تحت لوائه، منسحبين من أي مرجعيات مذهبية وقومية وعنصرية ودينية، متحدين تحت راية العلم اللبناني!
وهذا وقت الانسحاب من الإرادات المفروضة من الخارج، ومن فاكسات الأوامر ومن سيطرة الجواسيس، وخلايا الارهاب، التي ترفع شعارات النضال، لكي يكون اللبناني لبنانياً، ويغيب الطائفي ويسود الوطني في السياسة فقط، أما العبادات فلكل دين فضاؤه الحر.
ومشكلات الوطنية وعوائقها كثيرة، من داخل الدول التي فيها فئات تريد أن تأكل الموارد لنفسها، ومن خارج الدول، في القوى الخارجية المتعددة المتربصة المتوغلة، والتي كلما تقارب الوطنيون لحظة فجرت الألغام بينهم، وحرضت بعضهم ضد بعض، وكلما سار البرنامج الوطني الإصلاحي لحظة من النمو أوجدوا العراقيل وظهرت تبريرات للعنف وللأخطاء؛ يقولون هناك نقص في العدالة، وهناك عمالة، وطائفية، لكن لا يستمرون في الحوار، ولا يكشفون مواقع النقص القابلة للتغيير، ويواصلون إصلاح الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية، وإصلاح الوطنية الناقصة بمزيد من الوطنية المتكاملة، وإصلاح المعارضة الطائفية بمعارضة وطنية.
لا، انهم يرفضون ذلك للمزيد من التآمر، ولبقاء خيوط كل وطن عربي مرهونة بالخارج، ولكي لا يتحد العراقيون واللبنانيون والبحرينيون والسعوديون والمصريون الخ.
هناك دائماً فيتو على النضال الوطني المتحد!
في العراق هناك الانتحاريون الفاشيون الذين يذبحون أهلنا بوحشية قل أن تظهر، لقد تفوقوا بحق على الهتلريين وخرجوا كلية عن الإنسانية.
في لبنان هناك الفاشيون الذين يخرجون من مخيمات الفلسطينيين ليذبحوا الناس، وتغدو العمالة انتحاراً وإجراماً وتمزيقاً لبلد على جيشه ألا يكون جيشاً، بحكم خارجي واضح، مرة بشكل ومرة أخرى بشكل آخر.
لكل بلد صيغة التغلغل الخاصة بظروفه، فالقوى المتدخلة ليست من الغباء بحيث ان تكشف نفسها، وتكون صيداً سهلاً لقوى الأمم المتحدة.
إن البلد الذي يتعرض لهذه المذابح الوحشية من حقه أن يستعين بكل قوى الدنيا والفضاء لوضع حد لهذه الوحوش!
إذا لم يتحول السياسيون في كل بلد عربي إلى وطنيين على مستوى الحكومات والمعارضات، فإن مصيرهم سيكون مؤسفاً.
على مستوى الأداة السياسية لا بد من زحزحة الآراء المذهبية لتأخذ الوطنية المكان المركزي. وكلما تأخر ذلك زادت فاتورة الدماء والمشكلات.
على مستوى المرجعية ليس هناك سوى مرجعية سياسية واحدة، وتتكاثر المرجعيات الدينية حيثما يريد العباد أجوبة ومراجعات دينية خاصة بهم، ومن يمنع ذلك يكون مفسداً.
وهو تاريخ مهم يجب ألا يُفسد بتغلغلات الأجهزة والمخبرين والمتاجرين.
كذلك فإن صراع الوطنيين بين بعضهم بعضا جائز ومقبول بدرجة كبيرة بحيث لا يصل إلى التخريب ولا إلى العمالة ولا إلى القمع.
نحمي مرجعياتنا الإسلامية ونرفعها عن دسائس المندسين والمغرضين.
ونحمي وطننا من كل تلاعب به حين تقول الحكومات إن المعارضات عميلة، وحين تقول المعارضات ان الحكومات طائفية.
هل تعترف بأنني وطني مستقل؟
هل تعترف بأنني عراقي وطني، كردياً كنتُ أم سنياً أم شيعياً؟
هل تعترف بأنني لبناني وتنسى للحظة بأنني مسيحي أو سني أو شيعي؟ هل تلغي هذه النظارات الطائفية التي تلبسها والتي حرقت بأشعتها النارية الأخضر الجميل في بلادي؟
العلمانية مكملة للوطنية بل هي شكلُ تجليها ومعدن ظهورها وتألقها، حين ننزعُ الألبسة الخاصة بكل مذهب في فضاء السياسة، ونرى أنفسنا كمواطنين مسئولين عن الأطفال الذين نريدهم ألا يتذابحوا وألا يكملوا مسيرة النزاعات المختلفة التي غصنا فيها موتاً وتخلفاً!
وهذه لا تنفي الأديان التي تبقى جذور الحضارة الغائصة في تربتنا وتاريخنا.
بل هما (الوطنية والعلمانية) تبقيان وتجذران تلك الديانات فلا تجعلان المذاهب تصطرع فوق جثث الحدود وتحولان كل اقليم إلى عدو للأقاليم الأخرى، تزييفاً من الزعماء والمحتالين لأغراض ارتفاعهم فوق الكراسي والعروش.
الديانات تزدهر فوق تربة الوطنية العلمانية، وتجعل القوى السياسية تتصارع في ملاعب محددة، وتكون محاصرة بمحاسبات المواطنين، فلا تجعل أسعار الخبز ووظائف العمل والمساكن ملقاة على عاتق القوى المجهولة.
وأن تلتفت القوى الدينية إلى ان الأديان ثقافات عريضة عميقة ومدارس فلسفية وحكمة تاريخية وليست فقط شعارات وصراخاً سياسياً.
هذا سوف ينفي صراخ القوى الدينية المتطرفة التي لا تريد مساءلة وتريد أن تهبر من لحم المواطنين باسم الدين، لتحاكم في مدى فهمها ومصداقيتها، وخاصة أن لحم المواطن العربي صار أرخص من لحم الخراف، ومثلنا هو العراق الدامي، وهو السيناريو الذي تريد القوى الطائفية الفاشية توزيعه على كل أنحاء الأوطان العربية والإسلامية.
صحيفة اخبار الخليج
19 نوفمبر 2008