يطل علينا كل عام الاستاذ حسن الجلاهمة وهو يقدم تقرير الرقابة المالي، والذي بات للجميع يشكل تقريرا سنويا مهما للغاية لما يتضمنه من بيانات ومعلومات عن مسار الوضع المالي والإداري في تلك المؤسسات والوزارات والهيئات التابعة للحكومة. وكلما صدر التقرير ازداد نبض بعض المؤسسات والوزارات وارتفع ضغطها، فعادة لا يحب مثل أولئك المسؤولين مفردة الرقابة بل ولا يود مثل أولئك الناس إدارة تراقب مسيرتهم طوال العام في آلية الإنفاق للمال العام. مع العلم أن الرقابة هنا تقوم بقيمة نبيلة مهمة في مراقبتها بكل نزاهة وأمانة لكل دينار أو اقل منه وفق المتابعة الحسابية لكل رصيد تم صرفه. وبقراءة للتقرير المنشور وبصورة مكثفة يناسب حجم صفحات الجريدة فقد وجدت بين الوزارات كلا من وزارة الصحة والتنمية الاجتماعية والإعلام ووزارة العدل والدفاع والتجارة والصناعة والبلديات وتقريرا عن ميناء سلمان والوثائق الملكية المدرجة بالسجل المركزي حول كل الأملاك الحكومية وعن الاتصالات ومحطة الحد للكهرباء والماء والتأمينات والقروض في صندوق التعويضات ثم شركة بابكو وألبا ثم تقريرا عن الجمعيات السياسية. فماذا سنجد من سمات مشتركة وسمات لا تلتقي وأخطاء فادحة وأخطاء مغفورة ومقبولة؟ إذ الإهدار والإهمال فيها يتجاوز الآلاف فيما ارتفع لدى بعضها وتجاوز سقف المليون فارتفعت القشعريرة بعض الشيء لدى المواطنين والذين لتوهم فرغوا من قراءة الرؤية الاقتصادية والسياسية للبحرين حتى عام ٠٣٠٢، واستمتعوا فرحين بخطاب الملك، حين قال إن الوطن والمواطن هو الخيار الوحيد في تلك الرؤية، ولكن تقرير الديوان يجعلنا نخشى أن نستمع ونقرأ كل عام تقريرا يحدد ملامح الخلل والإهدار المتعمد أو القائم على سؤ صرف الإدارة أو الوزارة لميزانيتها والتي عادة لها محاسبات إدارية أيضا، فمثل تلك الأخطاء في القطاع الخاص يفصل فيها المسؤول من وظيفته على اقل تقدير، فليس كل جريرة أو زلة يتم العفو عنها في كل مرة، هذا وناهيك عن وجود رائحة السرقات والفساد الذي لا يمكن كل مرة أن يذهب ضحاياه صغار وفي سلم وظيفي محدد. لقد هالني وجود مؤسسات منذ عام ٢٠٠٢ تواصل حتى الآن نهجها في الإصرار على عدم تقديم البيانات والأرصدة المكتوبة عن كل ما تنفقه، لهذا برز في التقرير بشكل منتظم حول كل المؤسسات والوزارات عدم وجود أختام ففهمنا صعوبة تنقيب ديوان الرقابة، ثم تواصلت مقولة عدم وجود!! ولكن هذا العدم الوجودي صار موالا هاما كل عام، وعلى كل وزارة ان ترتبط بتقنية متطورة كوننا نسمع باستمرار عن مشروع الحكومة الالكترونية، بل وتشير الرؤية الاقتصادية إلى أن البحرين ستمتلك، وبإمكانها أن تمتلك، تقنية متقدمة في المعرفة والخبرة تعتمد عليها الاستثمارات العالمية، بل وترتكز الرؤية على المسألة القانونية والشفافية لتطوير ذلك المجتمع المرتقب والمنشود. من قرأ مثلي التقرير وجد في بعض المؤسسات وبعض الوزرات هامة خفية كالكابوس اسمه »الكيان المستتر« والذي يتلاعب ويهمل ويتكاسل في تنفيذ التوصيات (فلسفة التطنيش) التي يضعها لها ديوان الرقابة المالي وهي مهمة دون شك في تحقيق الأمانة في الحفاظ على المال العام، ولكنا نلاحظ وبكل سهولة كيف يتسيب المال من بين الأصابع والدفاتر، فكيف نتخيل لجنة في وزارة العدل كلجنة المساعدات الإنسانية وبكل أموالها يصبح تركيز أعمالها الإدارية والمالية لدى أمين سر اللجنة بمفرده، لا نقول إن النفس لأمارة بالسوء ولكن الفرد معرض للخطأ في كل الأحوال، وكلما زادت مهماته صار أكثر عرضة للأخطاء! وهناك عجائب العجب في التقرير فلا وثائق مسجلة في الأملاك الحكومية ولا سجلات تجارية مدونة بشكل صحيح وفق المعايير، خاصة الإهمال في الأمور الصحية والغذائية والسلامة والتي إذا ما تم إهمالها فإن كارثة كبرى محتملة تهدد حياة الناس. ولكن الطامة الكبرى ليست تلك الدنانير المبعثرة بين الامتيازات والمحسوبية والعلاقات العائلية والشخصية وتسهيل مهمات وتطيب خواطر. بل الطامة الكبرى هي المبالغ التي تعدت الخمسين مليون بكل راحة، فوجود ٤٤ مليون دولار غائبة عن السجلات المحاسبية بسبب التسعيرة للغاز الطبيعي وحسابات أخرى بين بابكو وألبا، فإن ذلك ينبغي وضع حد له بصورة قانونية وانضباط مالي وإداري صارم وإلا فقد الناس شعورهم بالأمان فالفساد والإهمال يعالج بطريقة قانونية وقضائية. فالفساد له أنياب وأظافر وروائح وأقنعة فمتى يتم اصطياد الثعابين في جحورها؟! ربما الإجابة الشافية عند ديوان الرقابة المالي فهم كاتمو الأسرار وهم العارفون بواطنها الرقمية وما وراء الرقمية ولعل التوصيات تنفع مقولة »عدم وجود« المتكررة ليست إلا ما لا يمكن وجوده فقد تبخرت الأموال الضائعة ولن نجدها مثل الأزمة المالية العالمية حيث صار المودعون ضحايا للمتلاعبين.
صحيفة الايام
18 نوفمبر 2008