المنشور

المواطنون والكهرباء.. بين “القطع والانقطاع”

ما إن تنفس المواطنون الصعداء من انتهاء موسم صيفي طويل دام نحو سبعة أشهر، عانى خلاله المواطنون أشد المعاناة، وبخاصة خلال شهر رمضان، من انقطاعات الكهرباء التي امتدت في بعض المناطق والمجمعات لساعات طويلة، وفي بعضها الآخر لبضعة أيام، حتى دشنت هيئة الكهرباء والماء موسم خريف القطع المتعمد الإجباري على بيوت أصحاب الدخل المحدود والمعدمين، وذلك لتراكم مستحقات فواتيرهم الشهرية للهيئة.
وكانت الصورة الصحفية التي نشرت لأحد العمال الفنيين وهو يمسك بالمفك لقطع الكهرباء عن أحد هذه البيوت صورة مؤلمة حقا لربما لا وجود لمثيلها في أي دولة خليجية، بل لربما في أي دولة عربية فإذا كان المثل الدارج يقول “قطع الاعناق ولا قطع الأرزاق”، فالأولى ان يقال على القياس “قطع الكهرباء من قطع الأعناق” بكل ما في هذا القياس من معنى حقيقي فعلي، فمازالت مأساة حادث شقة الصالحية التي احترق فيها عدة أطفال بحرينيين صغار في أعمار الزهور لاستضاءة أهلها بالشموع وهي المأساة التي جرت قبل نحو 3 سنوات نتيجة لتنفيذ عقوبة القطع المفاجىء الفوري من دون إخلاء الشقة مقدما على الأقل، من سكانها ماثلة لأذهان الجميع.
وللحق، فمنذ هذا الحادث المأساوي البشع الأشبه بالفضيحة حيث لا نظير له في دول مجلس التعاون أي احتراق سكان مسكن مواطن بسبب قطع الكهرباء عنه أيا تكن الأسباب الموجبة لذلك، وبالنظر الى ما ترتب على هذا الحادث من انتقادات حادة حينئذ اضطرت “الهيئة” الى أسلوب التعامل الحذر والمرن لإخلاء مسئوليتها من تكرار حوادث القتل غير المتعمد بسبب “قطع” الكهرباء حتى لا نقول “انقطاع” الكهرباء بسبب الأزمة الكهربائية المزمنة المتفاقمة عاما بعد عام.
بيد ان هذا التعامل الحذر المرن في القطع شمل المتأخرين عن سداد الفواتير المتراكمة من ذوي الدخل المحدود الذين اكتووا بنيران موجات الغلاء المتعاقبة في ظل ثبات الأجور، وذوي الدخل المتوسط والدخل المرتفع على حد سواء. بمعنى آخر ينبغي الاعتراف بأن فئات غير قليلة مقتدرة استغلت الوضع الجديد المتمثل في مرونة “الهيئة” لتلافي وقوع مآس إنسانية جديدة من جراء قطع الكهرباء، ولاسيما خلال موسم الصيف، لتطنيش وإهمال تسديد الفواتير “خير شر”. وينبغي الاعتراف أيضا بأن الأمر في ظل أجواء سياسية لم تخل من الاحتقان، هنالك من شارك في تحريض المواطنين طوال ثلاث سنوات منذ مأساة حريق شقة الصالحية على عدم الدفع مضفيا على المسألة بعدا سياسيا ينم عن إما جهل سياسي وإما عن سوء تقدير وبعد نظر مادام البعض يروج للامتناع عن الدفع إما بحجة ان هذا المال سيذهب هدرا في جيوب كبار المتنفذين في “الهيئة”، فيما يروج البعض الاخر ذريعة أخرى على شاكلة سؤال: وماذا عن تعويضنا عن الخسائر التي تكبدناها طوال صيف طويل من الانقطاعات “الفنية”؟
هنا تقتضي الموضوعية القول إنه اذا كان تسديد الفواتير المتأخرة ولو بالتقسيط، وهو من الأساليب المرنة التي تتبعها الهيئة منذ سنوات مشكورة، هي حقوق واجبة السداد على المواطنين كضرائب لتكوين وحماية المال العام المسخّر مبدئياً للمواطنين أصلاً، أيا تكن الملاحظات أو المآخذ على مدى حمايته وأوجه صرفه، فمن الواجب المحتم على الهيئة في هذه الظروف وبغية تلافي وقوع حوادث مأساوية جديدة يذهب ضحيتها مواطنون أو مقيمون جدد، ان تطبق نظام التقسيط بمرونة أكبر على فئتي الدخل المحدود والمتوسط. أما أصحاب المداخيل الكبيرة ورجال الأعمال فينبغي أن يكونوا قدوة في المسارعة بالسداد واحترام صيانة المال العام على الأقل ما لم تكن لهم مساهمة فيه، لأن المتضرر الأول من ضغط النفقات نتيجة لتقلص الموازنة العامة هم الفقراء وذوو الدخل المحدود لا أصحاب المداخيل المرتفعة.
وأعتقد أن تحديد هذه الفئات بدقة بات الآن سهلا جدا في ضوء تجربة وزارة التنمية في الوصول الى تحديد قوائم مستحقي “معونة الغلاء” التي أوشكت على الانتهاء مع قرب انتهاء العام ، شريطة ان ينطبق وصف “ذوي الدخل المحدود” على من يقل راتبهم عن 750 دينارا على الأقل، وهو نصف أجور ذوي مرتبات الألف وخمسمائة دينار الذين حددتهم “التنمية” كأقصى دخل أو أجر لمستحقي “معونة الغلاء”. ويمكن تصنيف أصحاب فئة الدخول من 750 ديناراً الى 1500 دينار هم من ذوي الدخول المتوسطة، وألا يتم “القطع” المتعمد إلا بقرار موقع من أعلى مسئول في الهيئة ألا هو الوزير المعني بها. لأن المسألة في غاية الخطورة والحساسية لما يترتب عليها كما ذكرنا من مآس إنسانية، وبحيث توضع بين يدي الوزير قائمتان: الأولى قائمة الأسماء المقتدرين فعليا على السداد الممتنعين عن الدفع والتي تفيد باستنفاد الهيئة كل السبل الممكنة معهم لحثهم على الدفع أو التقسيط المريح وبما يثبت “تطنيشهم” الصريح لإشعارات الهيئة وانذاراتها، وخاصة أن كثيرا من الناس لا تتسلم فواتيرها بانتظام شهري ، ومن بينهم على سبيل المثال كاتب هذه السطور، فتتراكم الفواتير شهرا بعد شهر.
أما القائمة الثانية فهي قائمة المعدمين وذوي الدخل المحدود، وهؤلاء ينبغي مراعاتهم بشكل أكبر في إيجاد أفضل الحلول الميسرة المريحة للسداد، أو إعفاء بعضهم، وألا يصدر الوزير المعني قراراً بقطع الكهرباء عن أي منهم إلا في حالات اضطرارية نادرة جدا، وبالتشاور المسبق مع مجلس الوزراء للحصول على ضوء أخضر بذلك.

صحيفة اخبار الخليج
17 نوفمبر 2008