كلما تراكم الزمن ابتعدت الصحافة البحرينية عن الطابع الأدبي، فقد بدأت أدبية بشكل كبير، لأن مصدر هذه الصحافة كان الشعراء والأدباء بشكل عام، ومن هنا أعطت اهتماماً كبيراً بقضايا الإبداع وخصصت مساحات ثقافية واسعة لكبار الشعراء والقصاصين، وجاءت السياسة والاقتصاد على هامش هذا الاهتمام الفكري.
ثم أخذت الصحافة الناشئة في الستينيات تبعدُ هذا الاهتمامَ المركزي بالثقافة، فقد كان أغلب التسييس يأتي من الأدب، وكان تسييساً نقدياً ومعارضاً اتخذ الأدب في كثير من الأحيان أداةً للنقد وللوصول للقارئ، حيث بدأت القوانين تكمم الأفواه، وغدت صحافة الستينيات وما بعدها تتجه إلى التحقيقات والأخبار بصورة أساسية، وقللتْ من الرأي لحد كبير، وحصلَ كتابُ الخبر والتحقيق على مكانة مركزية، وتصدروا الحياة الصحفية، فيما تراجعت صحافة الثقافة والرأي إلى الزوايا الخلفية وإلى الصفحات الهامشية، رغم أنهما ظلا يعتمدان في حرارتهما على الأقلام القادرة على الجمع بين التحقيق والرأي، وبين الاحتراف الصحفي والكلمة الشجاعة.
وفيما بعد وحتى اليوم فقد حدث تراجعٌ كبيرٌ لصفحات الثقافة والرأي خاصة في ظل قانون أمن الدولة، رغم أن الأدب والفن ظلا مسرحاً واسعاً لقوى المعارضة، ولكن تراجع الصحافة الثقافية في السنوات الأخيرة جاءَ من ضخامةِ تصدر السياسة للصفحات المختلفة، فقد توجهت الأغلبية القارئة لقضايا الأحداث والمشكلات والصراعات الساخنة، وأصبح الوعي العام مشغولاً بما يدور، عَرضاً لمواد المشكلات والصراعات، أو تحليلاً لها، هو في أغلبه ملاحظات جزئية ودعوات ايديولوجية لاتخاذ مواقف معينة.
ورغم ظهور الصفحات المتخصصة بشكلٍ كبير في الشؤون كافة، فقد زاد تدهورُ مواقع الصحفات الثقافية، لأن الطواقم الإدارية الموجهة لهذه الصحافة غدت أقل اهتماماً بالأدب والفن والفكر، وراحت تركز أكثر فأكثر على الجوانب الجماهيرية كالسياسة والرياضة والاقتصاد، فتصاعد حضور الإعلان لدرجة واسعة عكست عمليات الاستحواذ المادي.
ومن جانب الجمهور القارئ صار مُفرغاً بشكل متصاعد من الاهتمامات العميقة، مثل قراءة الكتب، وهذا أمر يعكس غرق الإنسان البحريني في المشكلات المعيشية والاجتماعية المتزايدة الصعوبة وفي تحسين ظروفه، ونظراً للتسطيح الذي تصاعد في السنوات الأخيرة، وهذا الأمر لا يعود لوضع المنطقة بل لطغيان الحياة المادية وابتعاد أغلبية المثقفين عن العمق الفكري ولعدم الإنتاج.
ففي السعودية رغم كونها مجتمعا من المنطقة فإننا نجد أنها لاتزال تعيش العصر الأدبي – السياسي، فهناك وفرة في الإنتاج الثقافي، واتساع في القراءة والمتابعة والنقد. ولا شك أن عدد السكان الكبير، ووفرة الوقت في مجتمع يخلو من التسليات البصرية الكثيرة، ووفرة الدخل كذلك لعبت أدوارها في قوة الكِتاب واقتنائهِ فيها وفي تصاعد الإنتاج الثقافي السعودي.
كما لعبت الأجهزة الإعلامية البحرينية دورها في تهميش الكـُتاب والكتب البحرينية، والاعتماد على الطاقات الخارجية، والتركيز في الموضوعات والأسماء غير البحرينية، مما انعكس ذلك أيضاً على الصفحات الثقافية.
وإذا كانت الصحف الجديدة توفر مساحات أكبر للثقافة فهو أمر عابر لأن هذه الصحف لم تترسخ، وهي مدعومة من الأجهزة الحكومية أو من البنوك والقوى المالية، فتغدق على بداياتها للحصول على موطئ قدم في النشر والإعلان، وحين تترسخ فإنها ستحذو حذو زميلاتها الرائدات في تنحية وتقزيم الثقافة والفكر فتتطلع لتنمية الدخل أساساً.
كذلك فإن الأجيالَ الثقافية الجديدة ذات كسل في النشاط وفي عدم المثابرة في النشر، ويحدث أن يصدر قاصٌ مجموعته القصصية الأولى دون أن يكرس نفسه في الصحافة، وينشر بكثافة من أجل معرفة ردود النقاد والناس.
وتعطي الخلفيات المذهبية السياسية السائدة للأجيال الثقافية جموداً عقلياً، فهي لا تنفتح على مختلف أنواع الآداب والفنون، ولا تهتم بالاحتكاك الثقافي الوطني، ومقاربة الاتجاهات الحديثة، ويعبر ذلك عن تضخم فردي أو يقود إليه، وتتقزم فنونٌ وتعادى أسماء حاشدة في الثقافة العربية نظراً لهذه الخلفيات.
وتسبب الجوانب الشللية والفردية الطاغية وروح الاستعراض والتسطيح في إضعاف النشاط الثقافي المكتوب، ويتجسد ذلك في ضعف القراءات النقدية للنتاج المحلي، فقد تمرُ سنواتٌ من دون أن تصدر معالجة نقدية عميقة لكتاب واحد بحريني.
ثمة فرق بين صحافة السبعينيات الحافلة بظهور رموز الإبداع المحلي، وكثرة نتاجاتها وتطويرها النوعي داخل الصحافة، وبتدفق الأسماء الجديدة فيها بشكل مستمر، وبين الوقت الراهن حيث تظهر قصيدة أو قصة مهمة بشكل نادر واستثنائي.
بطبيعة الحال اتجه الشبابُ للكِتاب ونشره، ولكن لم يتم غربلته نقداً قبل أن تتجمع في كتلة ورقية واحدة، ولم تتواصل هذه الغربلة حين يظهر الكتاب، الذي يُوزع مجاناً على الأصدقاء أو يقبعُ في مكتباتٍ محلية تبعدهُ إلى الزوايا الخلفية منها.
ولا تجد الصفحات الثقافية وقتاً لهذا النقد والتفحص والإضافة إلى الإبداع، ويحدث ذلك لأسباب شتى، قد يكون منها عدم قدرة الصحفيين الثقافيين على القيام بهذه المهمة، أو أنهم لا يجدون الوقت لها، أو يستعينون بالجاهز من المواد، لكن هذه مهمة صعبة في مهنة تتطلب السلق والسرعة والمادة الخبرية أو أن المادة الأدبية الجديدة البحرينية لا تستلفت الانتباه ولا تحرض على النقد، نظراً لهذه العادية المتفاقمة وعدم التوغل في الصراعات الاجتماعية والروحية وعدم التجذر في الإبداعين العربي والعالمي.
كذلك أضيفت مشكلة تدخل الرقابة في الكتب ومنع ومصادرة كتب لسوء القراءة في جهاز الرقابة، بحيث أن كتاباً قبل القراء لم يحصلوا على هذه الكتب لاستعراضها أو لنقدها.
لكن رغم هذا التضاؤل فهناك همة كبيرة في الشباب الذي تصدى للصفحات الثقافية وهو يغطي الفاعليات والأحداث الثقافية ويثير العديد من القضايا الساخنة، لكن تظل الجماهيرية مفقودة سواء للصفحات أو للندوات، بسبب توجهاتها للقلة وصعوبة المصطلحات المستخدمة وهامشية الموضوعات.
لكن هناك أقساماً جديدة أخذت مكانها جنباً لجنب مع الصحافة وهي المواقع الإلكترونية، وهي حافلة بالكثير من المتابعات والتحليلات في مساحة أوسع وبأشكال من الحرية أعمق وأكبر.
صحيفة اخبار الخليج
17 نوفمبر 2008