المنشور

ما وراء الأزمات

مساء الأربعاء الماضي، استضاف نادي العروبة البحريني الاقتصادي السعودي عبدالعزيز الدخيل في محاضرة عن الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها الخليجية. بعد الندوة تواصلت الأحاديث مع القهوة. تحدث العقاري البحريني عبدعلي النشابة عن وضع سوق العقار في البحرين، لكنه قطع حديثه ليسألني ما إذا كانت هناك مؤامرة فعلية وراء الأزمات العالمية. قلت لمحدثي بأن للأزمات قوانينها الموضوعية، أما المؤامرة فتكمن في أن ذوي الدراية من المتنفذين يقفون قبل غيرهم على ظواهر الأزمة، بينما تقتضي مصالحهم ترك الأمور تسير نحوها وربما افتعال ما يعمقها. لقد حفزني سؤال الأخ النشابة مشكورا لكتابة هذا المقال.
وقبل أن نذهب إلى ما كشفته أزمات كبرى سابقة أشير إلى أن الرئيس الروسي ميدفيديف قال في أحد خطبه الأخيرة إن نذر الكارثة المحدقة كانت ماثلة منذ زمن وأن الروس حذروا شركاءهم الأجانب، لكن أية إجراءات فعالة لم تتخذ فيما وراء المحيط. غير أن الشركاء كانوا يدركون ما يجري جيدا. وكما أشار عالم السياسة الأميركي المشهور رالف إبيرسون وغيره فإن ما يجري مخطط له بشكل هادف، ويخدم صنع الأرباح الخيالية التي ستجنيها دوائر المصارف العالمية، والأهم – حل عدد من المسائل السياسية المهمة في عالمنا المعولم. وقبل ما يزيد على 160 عاما وصف إيان كوزاك في كتابه الشهير «بدون طلقة» آلية مثل هذه المناورات: «اخلقوا مشكلة، ثم ادفعوا الناس الذين ستخنقهم للمطالبة بقوانين تخدم أولئك الذين صنعوا المشكلة[1]».
وهذه الطريقة بالذات هي التي طالما استخدمتها القوى المالية – السياسية التي أسماها الفيلسوف الروسي العظيم إي. أ. إيلين «ما وراء الكواليس العالمية».
قبل أزمة العام 1907 قضى المصرفي الأخطبوط في ذلك ج. ب. مورغان أشهر عدة في لندن وباريس ليتباحث مع شركائه البريطانيين والفرنسيين، وبعد عودته إلى أميركا بث على الفور إشاعة بأن مصرف (Knickerbrocker Bank) النيويوركي أصبح عاجزا عن الدفع. دب الذعر في نفوس المودعين، وراحوا يسحبون ودائعهم منه. ومن المعروف أن أي مصرف لا يعمل إلا بجزء يسير من الأموال، بينما الباقي يقدم كقروض أو يوظف في مشروعات. وعندما يطالب عدد كبير من الناس بسحب أموالهم يعجز المصرف عن الاستجابة. عدوى الذعر دبت في أوصال المودعين لدى المصارف الأخرى فتدافعوا لسحب أموالهم. أما مورغان فقد برز وكأنه «متنبئ» فذ. ولكي تستطيع المصارف إعادة الودائع لأصحابها راحت تسحب الأموال من مختلف الاستثمارات. وهكذا تحول الذعر إلى أزمة اقتصادية كبيرة. بعد الأزمة أمكن تصعيد وودرو ويلسون إلى سدة الرئاسة الأميركية. وقد أظهره برنامجه الانتخابي «الحرية الجديدة» كمدافع عن مصالح «الناس الصغار» الذين تضرروا من الهزة الاقتصادية. ذلك رغم أن من وقف وراء الأزمة هم أوليغارشيو وول ستريت من أمثال مورغان – شيف، واربورغز، ووندرليي وغيرهم. هؤلاء أوصلوا الرئيس الجديد وأحاطوه بخبراء المال من ماندل هاوس وبرنارد باروخ. وتحت حجة العمل من أجل تفادي حدوث مثل هذه الأزمات في المستقبل تم في العام 1913 إنشاء مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. وهو على غرار المصرف المركزي في البلدان الأخرى، لكنه لا يعتبر مؤسسة تابعة للدولة، بل يشكل حلقة فيما بين المصارف الخاصة. وأكثر من ذلك فإنه حصل على صلاحيات صك وإصدار عملة الدولار الأميركية. يقوم المصرف بإقراض الدولة هذه الدولارات، وبالتالي يحدد سياستها المالية. عضو الكونغرس الأميركي رالف بيتمان قال معلقا: «اليوم لدينا حكومتان.. واحدة دستورية، والأخرى في الظل». طبعا لم تكن هذه الإصلاحات بذاتها هدفا، بل إنها خدمت كأداة أمكن استخدامها من أجل حفز أحداث تاريخية كبرى على المسرح العالمي. واحدة من هذه الحوادث الكبار كانت الحرب العالمية الأولى. ذوو النفوذ المحيطون بولسون، القابعون في مجلس الاحتياطي الفيدرالي ملأوا جيوبهم جراء الحرب. ومنذ ذلك الوقت سرت في العالم مقولة إنه «حيث شعوب العالم تحارب فإن أميركا تتاجر». انطبق ذلك أيضا على دعم وتمويل الثورة البرجوازية في روسيا، حيث شارك مورغان وأمثاله. وقد ساق البروفيسور إي ساتون في كتابه «وول ستريت والثورة البلشفية[2]» أدلة كثيرة على هذا التورط، ويحتوي الفيلم الذي أنتجه تشافتشافادزة حديثا «ليف تروتسكي – أسرار الثورة العالمية»، وكتاب المؤرخ فاليري شامباروف «زحف الغرباء – مؤامرة ضد امبراطورية[3]» على أدلة مماثلة.
أما أزمة العام 1920 فهي الأولى من نوعها التي استطاع مجلس الاحتياطي الفيدرالي، حسب تشخيص عضو الكونغرس لاندبيرغ في كتابه «النوائب الاقتصادية» أن يفجر الذعر ويديره على أساس علمي محكم صيغ على هيئة مسألة رياضية. تم تقليص القروض وأوعز للمصارف كي تطالب بالسداد. وفجأة بدا ملايين المزارعين الأميركيين في حالة إفلاس، فقامت كبريات بيوتات المال بشراء أراضيهم بثمن بخس. عدا ذلك أعلنت مؤسسات صغيرة ومتوسطة كثيرة إفلاسها، ومن بينها 5400 مصرفا. وللمفارقة كان الهدف من وراء تلك الأزمة هو ما سمي بتحطيم الرأسمالية «التقليدية». لكن الذي تحطم بالفعل هو القاعدة المادية لمبادرات الأعمال الحرة. وسيقت كل قطاعات الأعمال الأخرى لتخضع لجبروت المجموعات الأوليغارشية (مجموعات المال) المتنفذة.
أزمة 1920 رسمت الطريق لهذه العملية، أما أزمة 1929 فأتمتها. عندها ابتكر ما سمي ببيع الأسهم بهدف الاقتراض وبدفع 10% من القيمة فقط. بدا ذلك وكأنه تسهيل للبائع، لكنه كان في الحقيقة لمصلحة المشتري. وتضمن العقد حق الوسيط بالمطالبة باسترداد القرض في غضون 24 ساعة فقط. وعندما اندفع صغار حاملي الأسهم لتسييلها في السوق بكثافة هبطت أسعارها إلى الحضيض. أما برنارد باروخ إياه فقد جاء بصديقه ونستون تشرتشل إلى بورصة نيويورك ليبدأ من هناك إطلاق كارثة على المستوى العالمي. وطبعا خرج باروخ وأقرانه واربورغز، ديللون، كندي وغيرهم من السوق مبكرين من دون أن يخسروا شيئا. وعلى خلفية تلك الأزمة جاء فرانكلين روزفلت العام 1932 إلى سدة الرئاسة بدعم من الأوليغارشية الأميركية تحت برنامج ما سماه «النهج الجديد».

[1] لمزيد من الاطلاع على الكتاب يمكن مراجعة الوصلة:
http://forum.armkb.com/history_and_politics/11420-french_revolution.html
[2] صدر الكتاب عن دار نشر الفكرة الروسية، تحت رقم التسجيل الدولي (ISBN 5-98404-008-5)
[3] صدر الكتاب عن دار ألغاريتم تحت رقم التسجيل الدولي (ISBN978-5-9265-0473-3).
 
صحيفة الوقت
17 نوفمبر 2008