بين الزهو والاستبداد
ينقل برتراند راسل في أحد مقالاته ما قرأه عن أن القاتل المُدان الذي يسمح له بمطالعة أخبار محاكمته في الصحف يُصاب بالغيظ إذا وجد أن إحدى الصحف كانت تغطيتها للمحاكمة غير مناسبة. وكلما زاد ما يُكتب عنه في الصحف الأخرى، زاد سُخطه على الصحيفة التي كانت تغطيتها ضئيلة.
جاء ذلك في إطار تحليل راسل لما يدعوه بالزهو الذي ينمو على ما يُغذيه، فكلما كثُر الحديث عن الشخص رغب في أن يكون الحديث عنه أكثر.
أكثر من يمكن أن نجد تجلياً لهذه القاعدة في صفوفهم هم السياسيون والأدباء، فكلما زادت شهرتهم، زادت صعوبة وكالة الأنباء والصحف في إرضائهم.
ينسب لواحدٍ من أبرز الكتاب العرب الراحلين ممن اعتادوا أن يقرأوا أخبارهم في الصحافة اليومية، قوله إنه يصاب باكتئاب يلازمه طوال النهار، حين يتصفح جريدة الصباح فلا يجد اسمه فيها، وتُحسب لهذا الكاتب جرأته في الاعتراف بما يحسه الكثيرون سواه، لكنهم لا يقولونه صراحة.
حسب راسل فإنه من النادر أن تكون هناك مبالغة عند الحديث عن أثر الزهو على مجالات الحياة الإنسانية، وهو أثر يمكن أن نلحظه عند طفل عُمره ثلاث سنوات، كما يمكن أن نجده عند صاحب السلطة الذي يرتعد العالم من تقطيبته.
تُقدم هذه الأقوال مفاتيح سيكولوجية مُهمة في فهم سلوك الكثير من المشاهير، خاصةً في الحقل السياسي، لأن الزهو المبالغ فيه يمكن أن يؤسس مع الوقت للاستبداد والطغيان والتعسف إزاء الغرماء والمنافسين، فمن أجل إبقاء صورة السياسي المعني في دائرة الضوء، وربما في مركز هذه الدائرة، بحيث لا يزاحمه أحد عليها، يلجأ إلى إبعاد هؤلاء الغرماء، بالقوة والعسف، إن لم تفلح أساليب بالتي هي أحسن.
ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن برتراند راسل يرى أن معظم القادة السياسيين اكتسبوا مواقعهم بأن جعلوا أعداداً كبيرة من الناس يعتقدون أن هؤلاء القادة تدفعهم رغبات غير أنانية، وأنهم ينطلقون من المصالح العليا لأوطانهم وشعوبهم، فيما يكون الزهو والاعتداد بالذات هو محركهم الأساس.
ستدخل طقوس رمزية ذات دلالة في تكوين هالة الزهو التي يحيط الزعيم نفسه بها، ومن بينها فرق الموسيقى النحاسية والمارشات العسكرية وإلقاء الخطب أمام الدهماء، وتلقين الحشود الهائلة على الهتاف بصوت واحد وبإيقاع واحد باسم القائد المعني.
داء النرجسية
على صلةٍ بحديث الأمس، أتذكر ما كتبه الأديب الفلسطيني رشاد أبو شاور في المذكرات عن حصار بيروت في صيف 1982عندما أطبقت القوات “الإسرائيلية” على أطراف المدينة وأمطرتها بقصفٍ من الجحيم من الأرض والجو والبحر، توقف عند مساهمات المثقفين العرب الذين عاشوا الحصار، لبنانيين وفلسطينيين وعرباً، في تنظيم أشكال من المقاومة “الإبداعية”.
كان بين هؤلاء رموز أدبية مرموقة، منهم من قضى نحبه كالشاعر معين بسيسو والصحفي حنا مقبل الذي اغتيل في وقت لاحق في قبرص، والشاعر علي فودة، ومنهم ما زال يواصل عطاءه في مناطق شتات جديدة أو على أرض فلسطين نفسها.
لكن أهم ما أشار إليه أبو شاور في يومياته عن الحصار أن المثقفين والأدباء الذين كانوا يلتقون، هكذا ودونما سابق تخطيط أو مواعيد في مكتب حنا مقبل، أصدروا صحيفة يومية من دون أن يسألوا أنفسهم من سيكون مُشرفاً عليها أو مسئولا عن تحريرها.
وتأكيد رشاد أبو شاور على هذه المسألة إنما هو في الجوهر إشارة ضمنية، أو تلميح، إلى الروح النرجسية العالية والمعهودة لدى المثقفين والأدباء، وتوارت حينها، مؤقتا تحت ضغط الحصار.
ويعرف الكثيرون من واقع تجربتهم الشخصية أن ثمة أسماءً لامعةً في سماء الثقافة، من الخير لك أن تقرأ لأصحابها فقط، أو تسمع بأسمائهم وصِيتهم عن بُعد، لا أن تلتقي بهم، أو تضعك الحياة في تماسٍ مباشر معهم، لأنك ترى هنا صورة أخرى، قد تبلغ درجة النقيض للصورة التي تكونت في ذهنك عنها من خلال قراءة أعمالهم أو السماع عنهم.
فالأديب الذي أسرتك كلماته أو أعماله هو عن قرب شخص دعي متعالٍ ونزق وغريب الأطوار. وفي أساس تعثر الكثير من صيغ العمل الثقافي العربي المشترك يكمن هذا الداء العضال لدى العديد من المثقفين، ولا نقول كلهم تفادياً للتعميم، الذي هو عادة مذمومة، ولأن لكل قاعدة شواذّ.
وكثيراً ما نقرأ عن احتكاكات أو معارك أدبية مفتعلة تملأ الدنيا وتشغل الناس، فإذا ما تحرينا الأسباب الحقيقية الكامنة وراءها، وجدناها أسباباً شخصية صرفاً.
نرجسية المثقف هي، إذاً، الاعتداد في حالته المكبرة، المضخمة، حين يتصور أن شحمه بات لحماً، إن نحن استعرنا من المتنبي صورته الشعرية البليغة.