حتى أمد قريب، ليس ببعيد، بدت الأمور واضحة بالنسبة لقطاع واسع من المثقفين ممن آمنوا بالثقافة رافعةً للتغيير نحو الأحسن وأداةً له.
فقد كانوا على قناعةٍ مطمئنة بأن مهمة الثقافة قد انتقلت من حيز تفسير العالم إلى مهمة تغييره، أخذاً بالمقولة المستعارة من القرن التاسع عشر التي صِيغت في الأطروحة الشهيرة: “كل ما فعلته الفلسفة حتى الآن هو تفسير العالم، بينما المطلوب تغييره”.
بيد أن هذا العالم الذي بدا لوهلة أنه مُفَسر قد تغير جذرياً، في الوقت الذي ظل فيه المثقف يوهم نفسه انه ما زال يسعى لهذا التغيير.
المعضلة الآن أن العالم الذي حسبت فلسفة القرن التاسع عشر أنها قد فسرته هو غير العالم الذي كان، وأن التفسير السابق لم يعد مُحيطاً بكل التفاصيل والتحولات التي جرت فيه.
العالم الجديد الناشئ اليوم نفسه بحاجة إلى تفسير. وفي غمرة النقاش الدائر حول دور الثقافة العربية والمثقف العربي غالباً ما يجري الانصراف عن حقيقة أن تحديد هذا الدور غير ممكن إلا عبر معرفة ما يدور في الراهن العربي من تحولات وتفاعلات.
إن خطيئة قطاع واسع من المثقفين العرب تكمن حصراً في هذا الانصراف نحو المقولات الذهنية المقولبة، ولا أقول المستوردة لأن هذا التوصيف فيه من التعسف الشيء الكثير.
وغالباً ما يبدو المثقفون مأخوذين بالموضة، أو بما هو دارج من مقولات مستقاة من سياقات ومناخات ثقافية وحضارية أخرى من دون أن يتمعنوا في حقيقة أن مثل هذه المقولات نتاج تراكم ثقافي وإبداعي مختلف، وأنها لا تنطبق على سياقنا الثقافي، وإذا انطبقت فإنها بالضرورة تأخذ تجليات خاصة بهذا الواقع.
ويبدو باعثاً على السخرية الترداد الببغائي لمصطلحات وأسماء مدارس فلسفية ونقدية غربية، كثيراً ما يكون الغرب نفسه قد أدار ظهره لها، فهذا الغرب نفسه بلغ مرحلة من النضج الحضاري الذي تبدو فيه بعض مظاهر تطوره أشبه بالورم الذي يشعر هو نفسه بالحاجة إلى عمليات جراحية للتخلص منه.
ثمة حاجة هناك إلى تفكيك ما هو فائض وزائد على الحاجة، فيما مجتمعاتنا ما زالت في طور التكوّن وتحسس الأرض من تحت خطواتنا علنا نعرف في أي الطرق سنسير.