المنشور

حوار الأديان والمذاهب

تستمر مسألة الأديان والمذاهب في العالم المعاصر مهمة ورئيسية بسبب أن هذه المعتقدات تعبر عن خصائص الأمم والشعوب المتحاورة وعن تاريخها الطويل.
وقد أصبحت هذه المسألة أكثر حضوراً نتيجة لاشتباكها مع عالم السياسات المختلفة والمتصارعة، ولم يؤد العصر العلماني الغربي إلى احترام الأديان بشكل كلي بل تم إدخالها إلى معترك السياسة على نحو أخطر وواسع، بسبب ان علمانية الغرب كانت هشة في العالم المغزو من قبله. 
 
وإذا كان الاستعمار الغربي قد أدى إلى نقلة حضارية في العالم بأسره، فهو كذلك سبّب الكثير من المشكلات، وأهم هذه المشكلات تغذية الطوائف وتصعيد الصراع بينها وتمزيق الإمبراطوريات – القومية – الدينية، كالروسية والصينية والعربية والفارسية والإفريقية والهندية الحمراء، وخلقَ واقعاً قومياً مذهبياً صراعياً، يجسد صراع الأمم والشعوب في مرحلة خطيرة من تطور البشرية.
وكان إنشاء إسرائيل شكلاً من ضعف العلمانية الغربية وتحريكها للاتجاهات الدينية المحافظة واستغلالها في الصراع السياسي الدولي وإقامة دولة على أساس ديني إحياءً لصراعات غابرة.
وللتغلب على آثار الاستعمار السلبية وآثار الماضي الضاربة في القدم، فإن البشرية بحاجة إلى حوارات غنية عن ماضيها وحاضرها، ورؤية أن الأديان والمذاهب واللغات هي مظهر لتطورها وتباين أعلامها القومية، وتمايز مصالحها.
فلا يجب القول إن هذا الدين أو ذاك هو مظهر الحقيقة، بل هو لغة شعب تعبيرية وعبادية تميز بها عن غيره، وان الأديانَ والمذاهبَ والتيارات الحديثة غير الدينية هي كلها لغات تعبيرية وفكرية عن هذه الأمم والطبقات والنزعات المختلفة، ويجب ألا تـُعتبر أي فكرة كبيرة نفسها هي البوصلة الوحيدة وهي المحور الأول والأخير للعالم، فهي وجهاتُ نظرٍ معبرةٍ وحيوية عن تلك الحقب التاريخية الطويلة وعن معتقدات مقدسة لشعوب.
إن هذا يعبد فكرة أو إلهاً وذاك يعبد شيئاً آخر وثالث لا يعبد شيئاً ورابعا لا يزال يعبدُ الأرواحَ وخامسا يعبد رموزاً الخ.. هذا هو تاريخُ البشر الديني واللاديني، وأهم ما فيه انه متعدد لم يقبل الماضون بتعدده وعلى المعاصرين أن يقبلوا بهذا التلون وإلا أزالوا كلَ شيءٍ مع اندماجهم مع بعضهم بعضا وامتلاكهم أسلحة الدمار.
وهم قد قطعوا خطوات في احترام هذا التعدد، فقد تداخلت أممهم وطوائفهم، وتمازجت شعوبهم، وحتى انه في كل مدينة تجد خليطاً هائلا من هذه الأديان، بل تمازج البشر حتى في العمارة الواحدة والحي الواحد والبيت الواحد أحياناً.
وبهذا فإن وحدة البشرية الراهنة تتطلبُ مستوى فكرياً مختلفاً عن الماضي، لكن لا يزال كلُ قسمٍ يروجُ لأفكاره ودينه ومذهبه وعباداته، وهذا أمرٌ لا فكاك منه مادام هناك تعددية دينية، ولكن الترويج عندما يغدو قسراً وتدخلاً وحروباً فإنه يغدو دماراً، أو ينتج مظاهر التعصب والارتداد والتحجر والنزاعات، وبهذا فإن البشرية بحاجة ماسة لإزالة مظاهر الاقتحامات السياسية وتجاوز الحدود وابتلاع الكيانات الأخرى، مثل اقتطاع إسرائيل أجزاءً من دول عربية ومنع شعب عربي من الاستقلال، ومن دون وقف هذه التجاوزات الخطرة فإن هذا يعني سيادة شعب على آخر، وهيمنة دين على دين.
كذلك فإن هيمنة مذهب بشكل سياسي على آخر، في كل دولة، وهو أمر يبدو واضحاً في الدول الشرقية، ومبطناً في الدول الغربية، فلا تزال السيادة الدينية هي الطاغية في كل الكرة الأرضية، هي إحدى المشكلات الكبرى المسببة للأزمات والصراعات الداخلية في كلِ دولةٍ وفي العالم كله.
وبهذا فإن الوصول لسلام أهلي ديني يعني حل الصراعات الاجتماعية في كل دولة، والحوار الحقيقي هو حوار القوى الاجتماعية للوصول إلى دولة لكل المواطنين، وألا تغدو الدول وأجهزتها ومصالحها وخيراتها حكراً على دين أو على مذهب، أو جزءا من شعب أو جزءا من أمة، وأمام تحقيق هذه المواطنية العادلة يلزم الكثير من الحوارات على المستوى الدولي وعلى المستويين الإقليمي والوطني، ومن الإجراءات الاجتماعية ومن الالتزام بقانون واحد يطبق على جميع المواطنين.
والحوارات ينبغي أن توضع في إطار مساواة بين الأمم، وتؤدي إلى تفهم مشترك لتواريخ هذه الأديان التي شكلت البشرية المعاصرة، وأن ينقل المتحاورون والساسة مسألة احترام كل الأديان والمذاهب والتيارات الفكرية المعاصرة إلى شعوبهم، وأن تصل مسألة احترام العقائد إلى كل مدرسة.
صارت هناك حدودا للأمم والمذاهب فكرية مترسخة، وأهم أمر هنا هو احترام هذه التقسيمات التي صار لها الآلاف من السنين، ومن هنا تغدو خطورة التبشير الديني المتدخل في عقائد الأمم، وخاصة في البلدان ذات التنوع العقائدي، التي يحاول كلُ دين وكل مذهب فيها أن يتوغل بين أتباع دين آخر أو مذهب آخر، وأن ينتصر عليه، ويثبت مكانته وان له الصدارة والهيمنة العليا، وهي أمور لا تسبب سوى تفاقم الصراعات وتمزيق الدول وإلغاء مبدأ العيش المشترك.
وقد تفاقمت قوى التطرف والسحل الدموي في هذه الفترة، ونرى مجازرَ رهيبة ترتكبُها هذه الجماعاتُ التي تدعي التدين الأفضل، ويسيلُ دمُ البشر الأبرياء أنهاراً من دون أن يتمكن العالمُ المتحضرُ من وضع حدٍ لهذه الوحشية! وهذه القضية هي القضية الأخطر التي يجب وقفها وليتعاون الجميع على معرفة الجهات المغذية لها والداعمة والفاعلة فيها.
إن ثمة وقوفاً سلبياً أمام النزاعات الدينية المتفجرة التي سببتها النزاعات القبلية والمذهبية والقومية والاجتماعية، ونرى قتل الآلاف من البشر باسم الأديان والمذاهب، وتعجز الأمم المتحدة وحدها عن حل هذه المعضلات الخطرة متخصصة في النزاعات السياسية المباشرة من دون التوغل جذورها، ومن دون إشراك الأحزاب والنقابات والجماعات المستقلة في الحوار حول هذه المعضلات وبحث طرق حلها، التي يرجع أغلبها لعمليات الهيمنة من قبل بعض الدول وسوء توزيع الثروات في كل دولة وعلى المستوى العالمي.
إن أغلب المشكلات في الصراع الديني الراهن هو بسبب إدخال الأديان في الصراعات السياسية، واحتلال أراضي الغير باسم كتاب مقدس، أو باسم هيمنة دين ومذهب، وتدهورت علاقات أمم وتفجرت حروب بسبب هذه الأساطير.
لا شك إن اجتماع الزعماء والسياسيين الكبار من أجل فتح سبل الحوار بين الأديان يتطلب اجتماعات واسعة بين المثقفين والمتخصصين في هذا التراث البشري، لرؤية القسائم المشتركة وإحداث تبادل ثقافي واسع يوفر تفهماً لهذا الإرث.

أخبار الخليج 15 نوفمبر 2008