من نافلة القول إن احتراف أو ممارسة السياسة لدى السياسيين هي أشبه بإدمان المدمن للأفيون الذي لا شفاء له منه، وهي كذلك بالنسبة إلى مدمني التدخين والكحول، ناهيك عن عشاق الرياضة، لاعبين وجمهورا وهلم جرا، بالنسبة إلى سائر الهوايات والمهن والحرف التي يتعلق ويولع الإنسان بعشقها وممارستها إلى حد الهوس والجنون إن جاز القول.
ذلك بأن حالات الشفاء والتخلص من هذه العادات والهوايات، النافعة منها والضارة، مازالت محدودة قياسا بالأعداد الهائلة من المنخرطين أو المتورطين فيها.
وفيما يتعلق بالسياسة تحديدا لطالما أثار ذهولي ودهشتي الممزوجة بشيء من التعجب والاستغراب الشديد تلك القدرة العجيبة التي تواتي عددا من الساسة في العالم، والعالم العربي خصوصا، لاتخاذ قرار بالصوم فجأة عن الكلام المباح وغير المباح في السياسة وعن ممارستها، وبخاصة إذا ما كان هؤلاء المعتزلون السياسيون يمثلون رموزا وقادة في الحياة السياسية ببلدانهم لطالما ملأوا الدنيا وشغلوا العالم بمواقفهم وأنشطتهم وشغبهم السياسي وكانت لهم صولات وجولات لا تنقطع على ساحة العمل السياسي على مدى عقود أو سنوات طويلة من عمرهم.
فأن يصوم السياسي عن السياسة لأسباب قهرية خارجة عن إرادته، كالاعتقال، علما بأنه حتى هنا وفي هذا المكان لا ينقطع عن ممارسة العمل السياسي داخل السجن، أو أن يترك العمل السياسي بسبب مرض عضال حرج يقعده ويجبره جبرا على اعتزال السياسة بما في ذلك إذا ما ابتلي بإصابة معوقة أو مقعدة في أطرافه أو في لسانه أو في دماغه، علما بأن ساسة مناضلين كثيرين لا يتوانون عن العمل أو الكتابة السياسية حتى وهم في أسوأ مراحل المرض العضال خطرا يشرفون فيها على الهلاك، كأمراض السرطان على اختلاف أشكاله.. فكل ذلك لهي أسباب مفهومة، لكن أن يصوم الساسة عن السياسة وهم في كامل قدراتهم العقلية والجسدية والفكرية، حتى لو كانوا في خريف العمر، أو بلغوا من العمر عتيا لدخولهم سن الشيخوخة فهذا أمر يبعث حقا على الدهشة والاستغراب من قدرة السياسي العجيبة وإرادته المدهشة على اتخاذه مثل هذا القرار والصمود في الالتزام به بلا رجعة.
ولعل نماذج الساسة الذين دفعتهم الظروف غير المرضية وغير السياسية لاتخاذ هذا القرار أكثر مما تحصى ان على مستوى العالم وان على مستوى العالم العربي. ففي بلداننا العربية فإنها جميعها لا تخلو من مثل هذه النماذج ممن تقاعدوا فجأة عن السياسة أو قرروا اعتزالها. ولا يبرر هذا الاعتزال المشدد الصارم القول مثلا عدم وجود حيلة بسبب فرض الإقامة الجبرية، أو شرط منح اللجوء السياسي للسياسي الفار من بلاده إلى دولة أخرى.. ذلك بأن أفيون السياسة لدى المدمن يسري في دمه سريان النار في الهشيم وأقوى من قدرته على التقيد بشروط الإقامة الجبرية القسرية أو احترام شروط اللجوء السياسي.
كان آخر من قرأت عنهم بأنهم تخلوا عن ممارسة العمل السياسي وطلقوا السياسة بالثلاث، على حد تعبير بعضهم، أربعة رؤساء جزائريين سابقين، هم كل من: أول رئيس بعد استقلال الجزائر أحمد بن بيلا، بالرغم مما هو معروف عنه كناشط في عدد من المنتديات والمؤتمرات الفكرية والسياسية العربية، والرئيس العسكري الشهير ذي النزعة الديمقراطية الإصلاحية الجنرال الشاذلي بن جديد الذي أجبره جنرالات الجيش على التنحي عن الحكم لعدم موافقته على إلغاء نتائج انتخابات ديسمبر 1991 البرلمانية التي فازت بمعظم مقاعدها جبهة الإنقاذ الإسلامية، والرئيس علي كافي الذي تسلم الحكم لفترة انتقالية مدتها سنتان إثر اغتيال الرئيس محمد بوضياف عام 1992، وحينما سئل الرئيس كافي عن سبب صيامه الطويل عن العمل السياسي أجاب: “حدثوني عن التاريخ، عن ثورة التحرير، إلا السياسة فقد طلقتها بالثلاث”، وهو بهذا يبدو أفضل الصائمين طالما يكرس اعتزاله للحديث عن تاريخ الثورة الجزائرية أو كتابة مذكراته السياسية عنها.
ومن الرؤساء الجزائريين الذين طلقوا السياسة بالثلاث الرئيس ليامين زروال الذي عرف عنه، كما ينقل أحد المراسلين الصحفيين الجزائريين، بأنه دأب على مقاطعة المناسبات العامة السياسية وبضمنها تلك التي يدعوه إليها الرئيس الجزائري الحالي عبدالعزيز بوتفليقة (الشرق الأوسط 7/11/2008).
وإذا كانت هذه ليست سوى نماذج رسمية جزائرية قيادية رئاسية سابقة فبإمكانك تعداد نماذج لرموز وقيادات عديدة أخرى على المستويين الرسمي والشعبي ليس في الجزائر فحسب، بل في سائر الأقطار العربية قاطبة ومن بينها بلادنا نفسها البحرين على المستوى الشعبي تحديدا.
ولعل من أبرز النماذج القيادية الرسمية على مستوى منطقة الخليج والجزيرة العربية التي التزمت التزاما شديدا مدهشا بالإمساك عن السياسة من دون أن تنبس بكلمة واحدة احتراما لشروط لجوئه السياسي الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي سالم البيض بعد فراره من عدن إثر أحداث الحرب الأهلية بين الشطرين اليمنيين في عام 1994 إلى سلطنة عمان رغم ما تحمله جعبته من أسرار وحكايات يملأ بها مجلدات من مذكراته عن ثورة جنوب اليمن والأحداث والتحولات العاصفة التي شهدتها بلاده منذ استقلال هذا الشطر عن الاستعمار البريطاني عام 1967، ناهيك عن صيام قادة آخرين من رفاقه في الحزب والدولة.
والحال ان قدرة معظم هؤلاء الساسة من محترفي وعشاق العمل السياسي الرسمي والشعبي، بعدما كانوا يملأون الدنيا ويشغلون العالم بأنشطتهم السياسية الجبارة على الإمساك عن الحديث عن السياسة أو ممارستها بأي شكل من الأشكال لهي ظاهرة غريبة تدعو حقا إلى التأمل وإلى تحليل سر صمود السياسي بهذا الصيام بعدما كان أشبه بالمجنون في عشقها.
صحيفة اخبار الخليج
13 نوفمبر 2008