رغم أن التوريث في الأنظمة الجمهورية العربية شأن سياسي فإنه نتاج التدهور في البنى الاجتماعية، واتجاهها للمحافظة.
إن المكونات الداخلية الغائرة كحكم القبيلة والأسرة والأبوية الاجتماعية وتهميش دور النساء ودور الثقافة العلمية، راحت تتصاعد خلال العقود الأخيرة بقوة كبيرة.
فالقطاعات العامة غدت فاسدة، وفي مؤخرة الاقتصاد، وتدفقت القطاعات الخاصة غير الإنتاجية باتساع كبير،
وفسدت طواقم الحكم نتيجة التوريث الحزبي، فالحزب الحاكم لا يتزحزح عن مواقعه رغم اشتداد المعارضة والمنافسات الانتخابية الضارية، وهو يخاف من جردة حساب عميقة لهذا الاقتصاد وللتداخل بين الحكم والمنافع، وتحول مسئولوُ الحزب الحاكم إلى قياصرة صغار يخططون وينفذون.
سادت في (الديمقراطية) العربية عمليات التزوير، والإعداد المنظم للطبخات البرلمانية، وتشكيل طواقم جاهزة للبصم، وكلما قامت بمهماتها (الوطنية) هذه شاركت في ولائم الغنائم من الاقتصاد المختلط المخترق من مسامه.
ولا يبعد ذلك عما يجري في ساحات الثقافة من تشويه لوعي الناس بل يغذيه، فضرب المسرح الذي كان يعري وينتقد هذه الممارسات، فهو إما تجريب غامض وإما تسلية تافهة، وغدت الصحافة الرسمية خاصة مكرسة لإنجازات الأنظمة، وجُر الشباب إلى اللهو الفارغ وأغاني البلاهة أو جُمد في أشكال تراثية متيبسة.
وصارت الفضائيات والإذاعات مكرسة لمثل هذه الأغاني، وكأن الملايين من العرب ليست لهم شغلة سوى الاستماع إلى هذه الأغاني التافهة.
وبطبيعة الحال لا يمكن رفض الأغاني وجمالياتها ودورها الترفيهي والإبداعي لكن أن تقضي أمة ثلاثة أرباع وقتها في الاستماع إلى الأغاني التي أغلبيتها الحاشدة مسفة هو جزءٌ من تدهور الأنظمة الجمهورية خاصة التي قادت معركة التغيير والتنوير.
إن فساد الإدارات الحكومية وفساد الأحزاب الحاكمة والصديقة والموالية لها، استتبع فساد الاقتصاد، وتوسع عمليات الارتشاء وتهريب الأموال وإدخال السموم بمدى هائل تحت غطاء هذه الإدارات نفسها.
كذلك تم القضاء على الأحزاب المعارضة التي كان يمكن أن تزحزح هذه السلطات المطلقة، إما لتحجر فهمها للإسلام وتمزيقها للشعوب، وإما للهجوم من الداخل على الأحزاب المعارضة الصغيرة الديمقراطية الواعدة من خلال الانشقاقات وهي مؤامرات محبوكة وعمليات زرع طويلة الأمد في صفوف المعارضة الإيجابية من أجل ألا تكون ثمة بارقة أمل في الليل السياسي الطويل!
وقادتنا الأحزاب الدينية إلى نشر التخلف والعداء لتطور النساء، وتشجيع الخرافات والعصبيات المذهبية والدينية، ورفض الثقافة الحديثة المتطورة من شعر وقصة ورواية وفنون تشكيلية ومسرحية وموسيقية، وإلى تقوية المحافظة المنزلية، مما سهل على الحكومات الشمولية السيطرة على الناس وتجميد عقولها النقدية.
هكذا أُطبق على الشعوب العربية من كل جانب، فصارت الأغلبية الشعبية لاهية أو سلبية أو نائمة، وتركتْ الأمورَ للأقدار، ولا ترتجف غضباً إلا حين تـُمس كسرة خبزها وحليب أطفالها، وقد عرفت الحكومات ذلك فجعلتها مثل الماشية تدور في ساقية الأكل والنسل والظلام.
وقد وجدت الأنظمة نتيجة لهذه الاهتراءات على جميع الأصعدة ان تحويل أسرها التي تسللت للحكم في لحظة بائسة من لحظات التاريخ إلى أسر حاكمة هو أمرٌ يمثل إنجازاً حضارياً وخدمة كبرى تقدمها للشعوب!
وقد دبت مظاهر التأليه للحاكم خلال حكم الأب الذي كان يتجه للشيخوخة بشكل مستمر وإلى الهيمنة على الحكم بصورة مطلقة، وتحول الأتباع إلى أدوات يتم التلاعب بمصائرها حالما تبدي شيئاً من الاختلاف، وتـُرفع حين تظهر الطاعة والخضوع وتلويث من هم دونها، فصار رأس الحكم هوسبب البلاء، وتمظهر ذلك بالعودة للماضي السياسي التوريثي.
غدا الرئيس الأب مثل القدر الذي لا يتزحزح، واعتمد مزيداً من الدهاء وصار مثل الأباطرة لا يتحرك إلا في هيلمان كثيف من حرق البخور والاستعدادات الهائلة التي تجند الملايين لشخصه، وهو يتحرك بسرية تامة خوفاً على حياته الغالية، وشخصه الذي لم يُجدْ الزمانُ بمثله.
وأصبح العاملون يعيشون من فضله، والنساء تحبل بفضل نوره، والأجور والرواتب تتدفق بلمسة من أصبعه الكريمة!
لهذا عاد العرب للشعر المقفى، حيث انتشر الضربُ على القفا، وظهر الشعراءُ المداحون الكاذبون مرة أخرى، ولكنهم بدلاً من ركوب الإبل والمطايا صاروا يركبون المرسيديسات وظهور العامة المفلسة، وبدلاً من العيش في الخيام وأكل الضببة صاروا يعيشون في الفلل الفخمة ويأكلون وجبات تأتي بالطائرات من باريس ولندن!
وانتشرت الأقلامُ التي باعت نفوسها، وأسالت حبر أقلامها مثل مياه المستنقعات، وأين مثل صرخة عباس محمود العقاد في البرلمان؟ وأين مثل نقد طه حسين؟
كان خراب النفوس على جميع الأصعدة، وصارت المقاومة مثل الكبريت الأحمر والخل الوفي، وغدا للمثقف عدة أقنعة ووجوه، وانتشرت الأمثال السلبية.
وإذا كان الأب يتجه إلى التضخم الجسدي وصعوبة الحركة وثقل السمع، فإن الابن لديه كل الخصال العظيمة، وقد بدأ يظهر في كل المناسبات، وصار زعيم الحزب، وتغير الدستور بالأغلبية المضمونة، والابن يستحق هذه المناصب كلها وتغيير الدستور، فهو فلتة وسوف يقوم بإنجازات باهرة، ويُحضرُ طواقم جديدة شابة ذكية بعد أن شبعت الطواقم القديمة من لحم الوطن ومصمصة عظامه.
هناك الكثير من الجوانب الإيجابية في حياة الجمهوريات العربية، فالإنتاج الثقافي العقلاني كثير ومتدفق، لكنه لا يصل إلى الشعوب الأمية، وهناك أحزاب صغيرة مقاتلة ولكنها متصارعة تعيش في مقراتها ولا يسمع كلامها عابرو الشوارع القريبة.
تدهور الطواقم السياسية دليل على تدهور وعي الشعوب وعلاقاتها، وأحزابها، فمتى كانت الحياة العربية تعود إلى الوراء بمثل هذه السرعة والابتذال؟
صحيفة اخبار الخليج
13 نوفمبر 2008