أطلقت التحولات التي جاءت مع الاقتصاد القائم على النفط في بلدان الخليج حالاً من الحراك الاجتماعي والثقافي السريع الذي نجد تجلياته في العديد من مظاهر الحياة، وهو حراك مستمر، فبرغم مرور عقود على هذه التحولات، فان مجتمعاتنا الحالية ما زالت في حالة صيرورة وتشكل، وهي لم تعرف بعد الشكل النهائي أو الممتد الذي يسمح برصد أدق للظواهر ونتائجها. إن بعض الباحثين يذهبون إلى أن المدينة الخليجية، من حيث هي الجسم العمراني والسكاني الأساسي لدول الخليج ما زالت تبدو غير مكتملة، ومخترقة بالمساحات الرملية الكبيرة، وهذه الملاحظة يمكن تعميمها، فهي في العمق الاجتماعي ليست اقل بروزاً، بل إنها هنا بالذات أكثر حدةً وأبلغ في النتائج. ويظهر ذلك، أشد ما يظهر، في الازدواجية العميقة للقيم وأنساق الثقافة ومظاهر الوعي الاجتماعي، فمن جهة تخترق مظاهر العولمة ثقافياً وعمرانياً البنى والمظاهر التقليدية في مجتمعاتنا، وتنشأ مدن حديثة تُضاهي المدن الأمريكية أو الأوروبية، لكن خلف هذه المظاهر الجذابة والأنيقة تختفي مظاهر الكسل والركود في أشكال الوعي. رغم أن التكنولوجيا الحديثة إذ تدخل مجتمعاً ما فإنها لا تفعل ذلك بصورة محايدة، إنما هي تحمل معها مؤثرات مٌهمة تمسُ الوعي، لكن » الوعي « الذي ينشأ عندنا بحكم ذلك هو وعي مُشوه لأنه يريد التشبه بمظاهر الحياة الحديثة ويزعم في الوقت نفسه تمسكه بمنظومة القيم الموروثة. صحيح أن التطور الصحي للمجتمعات لا يمكن أن يقوم على قطيعة مع الماضي، إنما عبر تمثل العناصر الايجابية في هذا الماضي وإدماجها بروح خلاقة في ثقافة ووعي الحاضر، بيد أن الوعي المُشوه الذي يتشكل الآن يعيد إنتاج أشد العناصر سلبية ومحافظة في ثقافة الماضي ويكسبها رداء عصرياً، فينتج لنا شخصية قلقة، مضطربة، ميالة للسهولة والمظهرية الفارغة والاستعلاء الذي يخفي وراءه هشاشة وضعفا وترددا. ليس هذا النوع من الاضطراب أو القلق بين التحديث والتقليد حالة خاصة بمجتمعات الخليج، غير أن هذه الظاهرة تكتسب طابعاً أكثر حدة لعدة عوامل بينها نمط الاستهلاك الترفي والبذخ الذي ارتفع إلى مستوى القيمة التي تقدر بها منزلة المرء ومكانته الاجتماعية، وبينها أيضا النمو أو »التحضر الفوري السريع« كما دعاه أحد الباحثين الذي لم ينبت في بيئته بشكل تدريجي، بقدر ما جرى استجلابه من خارجها. كان البحث السوسيولوجي في المنطقة يركز على أن هذه مجرد مظاهر مرحلة انتقالية، بعدها ستنتقل مجتمعاتنا إلى حالة من التوازن النفسي والاجتماعي والتنموي، لكن ما يقلق المرء أن هذه الحالة » المؤقتة « أخذت تنتج آليات استمراريتها التي قد تطول، وأكثر من ذلك تنشئ وتعمم القيم وأنساق الثقافة المشوهة الخاصة بها. ويجري الإعلاء من هذه الأنساق المشوهة وتعميمها عبر أجهزة الإعلام والصحافة، من خلال برامج ترصد لها جوائز سخية، وتقدم كبديلٍ للثقافة في أنماطها الرفيعة، وإغفال مستلزمات التنمية الثقافية والبشرية الحقة التي تتطلب تدريب حواس وملكات التلقي الثقافي، وتربية الإنسان بروح العمل والتضحية ونبذ الاتكالية.
صحيفة الايام
13 نوفمبر 2008