على ضفاف الأنهر وعلى مقربة منها ومن شواطئ الخلجان قامت المدن الأولى، مدفوعة بمحفزات موضوعية، تجارية (في الشكل البدائي الأول للتجارة وهي المبادلات السلعية غير النقدية) وحرفية ومهنية.
وفي هذه الثغور كان البر-جوازيون (التسمية الفرنسية الأصلية لسكان المدن (Bour-geoisie) يضعون اللبنات الأولى لما صار يُعرف اليوم بالأسواق التي يلتقي فيها الباعة والمشترون لتبادل وشراء السلع من بعضهم البعض قبل أن تتطور من أشكالها البدائية إلى حالتها الإلكترونية الراهنة.
ولازالت السوق ومنذ ظهور أشكالها الأولى، تُوالي إفراز ظواهرها الجديدة العاكسة للحالة الاقتصادية-الاجتماعية والثقافية السائدة في مجتمع ما، سواء كان ذلك في أسواق المال الكبرى المتطورة أو الأسواق السلعية الصغيرة الناشئة.
وكلما ازداد إيقاع الحراك في الأسواق كلما أفرزت مزيد من ظواهرها الجديدة وتجلياتها المعبرة عما يمور في مجتمع السوق من علاقات ملكية وتوزيع وإعادة توزيع للمداخيل.
وتعتبر أسواق دول مجلس التعاون الخليجي وبضمنها السوق البحرينــي، نماذج مثالية للأســـواق ذات الحـــراك العالي والميـــزات التـــي تكـــاد تنفــرد بهــا بــين مجمــــل الأســـــــواق فـــي الــدول النامية، بما في ذلك الأسواق الناشئة (Emerging Markets) التي ميزت نفسها في السنوات العشر الأخيرة بين أسواق الدول النامية كأسواق دينامية ومتنامية التعولم والاندماج في الاقتصاد العالمي.
فهي - أي الأسواق الخليجية، ومنها السوق البحرينية - تتميز بنموذجها الاستهلاكي المفرط، وبالحضور الكثيف والمتسع عمقاً للعمالة الأجنبية ورواد الأعمال الأجانب الذين صاروا يحتلون رقعة شاسعة ومتسعة دوماً من أسواق هذه البلدان.
في حالة البحـرين، على سبيل المثال، بقيت الأسواق الداخلية، جميعها دون استثناء .. من سوق التجارة في السلع والخدمات، إلى أسواق الجملة والتجزئة، في أيدي البحرينيين باستثناء نسبة ضئيلة جداً، وذلك حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين الماضي عندما بدأت الموجات الأولى من العمالة الأجنبية بالتدفق على البحرين وبقية البلدان الخليجية تحت تأثير الطفرة النفطية الأولى (1973-1974).
فقد آذن ذلك بحدوث ‘نزوح’ صريح للعمالة البحرينية من مواقعها الإنتاجية إلى مواقع وظيفية ريعية أفرزتها الطفرة من قبيل البوتيكات التي انتشرت كالفطر، ومكاتب استيراد الأيدي العاملة الأجنبية لاسيما خدم المنازل، والمطاعم ومحلات الوجبات السريعة، والاتجار في التأشيرات والسجلات التجارية، وتخليص المعاملات الحكومية والجمركية، والبقالات، ومقاولات تنظيم رحلات الحج والمواقع الدينية في العراق وسوريا وإيران، وأعمال المقاولات بأنواعها المعتمدة على طوفان العمالة الآسيوية … الخ.
وكان أن اكتسبت هذه النقلة النوعية في سوق البحرين والأسواق الخليجية الأخرى زخماً جديداً مع الطفرة النفطية الثانية في عام 1979 مع دخول نشاطي المضاربات في سوق العقار الصاعد والواعد ومن بعده بورصات الأوراق المالية التي أنشئت مع قيام المزيد من الشركات المساهمة وانتعاش سوق الإصدار الأولي.
فكان أن أدى تجذر النزعة الريعية في منظومة القيم الاجتماعية الخليجية والسعي للكسب السهل والسريع في الأنشطة الأكثر إغراءً، إضافةً إلى مرافقة الفساد، الطبيعية، لمثل هذا التكالب على تكوين الثروة - أدى إلى التواطؤ مع تشكيلات العمالة الأجنبية المتمسكنة والمتمكنة مع الوقت من استيعاب النمط الاقتصادي الخليجي الذي راح يشق طريقه بين نماذج التنمية الآسيوية الصاعدة، وذلك بالتشارك معها في إدارة ومن بعد تقاسم ملكية عدد واسع من أنشطة قطاع التجارة الداخلية.
وسرعان ما تطور الأمر في البحرين، نتيجة لحسن تنظيم ومثابرة رواد الأعمال الأجانب الذين أفرزتهم ‘سيولة’ أسواق العمل المحلية، فبعد ‘سقوط مواقع’ سوق البقالات، وسوق الأقمشة والملابس الجاهزة، وسوق الذهب والمشغولات الذهبية، وسوق الخضار (سوق الجملة والتجـزئة)، وسوق الفواكـه (جملة وتجزئة)، وسوق اللحم، وأكثر من نصف سوق السمك - بعد ‘سقوط مواقع’ هذه الأسواق الواحد تلو الآخر في أيدي العمالة الآسيوية التي ارتادت عالم ‘البيزنس’ (كأصحاب أعمال هذه المرة)، انضمت إلى قائمة حيازات ملكياتهم فيما بعد سوق المقاولات من الباطن، وسوق ورش الألمنيوم المصنِّعة لمختلف مدخلات قطاع الإنشاء.
ولم ‘تسقط’ هذه الأسواق في أيدي العمالة الآسيوية ورواد أعمالها الذين أفرزتهم تداعيات وملابسات السوق، من تلقاء نفسها ولا هي كانت محل صراع امتيازات محتدم، وإنما هي سقطت نتيجة لتفريط روادها وأصحاب أملاكها البحرينيين، أي أن عملية نقل ملكيتها وتشغيلها وإدارتها، كلياً في أغلب الحالات، وجزئياً في النزر اليسير منها، قد تمت بإرادة أصحابها وملاكها الأصليين.
وهذه كانت أبرز الظواهر التي أفرزها نمط التنمية الذي تسيَّد الساحة الاقتصادية الخليجية عموماً والبحرينية ضمناً.
وإلى جانب هذه الظواهر الأبرز، فقد كانت هنالك ظواهر مماثلة أقل شأناً مثل ‘السوق الثانوي’ (The Secondary Market) - إن جاز التعبير - لعرض وبيع قوة العمل الآسيوية، وهي أسواق طيارة لتجمعات عمالية تتخذ من بعض الأماكن الرئيسية مواقع لعرض وبيع قوة عملها لمن يطلبها سواء في أعمال مؤقتة أو أخرى ذات فترات أطول.
وهناك ظاهرة الباعة المتجولين الذين اتسع نطاق تجارتهم وانتشارهم في مناطق البحرين المختلفة. وما عليك سوى التوجه صباحاً ناحية السوق المركزي بالمنامة (ما بين السادسة والثامنة صباحاً) لتجد نفسك أمام سيل متدفق من العربات المحملة بمختلف صناديق الخضار والفواكه يجرها آسيويون لينقلونها للبيع بالتجزئة إلى بقالاتهم المنتشرة كالفطر في أنحاء مختلفة من العاصمة، ومداخل وزوايا أسواقها القديمة وما جاورها من أحياء هجرها أصحابها البحرينيون ليستوطنها آلاف الآسيويين الذين حولوها إلى ما يشبه الغيتوات الجنوب أفريقية المتمايزة بشكل صارخ عن الأمكنة البحرينية، سواء التي لازالت محتفظة بطابعها العربي مثل المحرق أو مناطق التجمعات السكانية البحرينية الجديدة.
ولا ريب أن هذا التفريغ اليومي للسوق المركزي من شحنات الخضار والفواكه على أيدي هؤلاء الآسيويين من الباعة المتجولين وأصحاب البقالات الآسيوية المتوالدة، قد أسهم بلا شك في تقليص طاقة العرض السلعي للسوق المركزي من الخضار والفواكه وبالتالي الضغط على أسعارها صعوداً.
ولا يجب أن يستهين أحدنا بحجم هذه الظاهرة وتبعاتها استناداً إلى هامشية هذه الأنشطة الاقتصادية في الطاقة الإجمالية للاقتصاد الوطني البحريني. صحيح أن أسواق البقالات والخضار والفواكه واللحوم، وأيضاً - كفرضية جدلية - سوق الذهب والمشغولات الذهبية وسوق ورش الألمنيوم وسوق المقاولات الباطنية - هي أنشطة ثانوية إذا ما قورنت بالقطاعات المفتاحية لاقتصادنا الوطني. ولكن علينا أن نتنبه، من وجهة نظر التحليل الاقتصادي الكمي، إن الدورة السلعية وترتيباً الدورة الرأسمالية في هذه الأنشطة هي الأسرع بين الأنشطة الاقتصادية الأخرى، وهي بالتالي تتمتع بميزة خلق التراكم الغزير والتركيز العالي لرأس المال.
صحيفة الوطن
11 نوفمبر 2008