ثمة بُعد نفسي سياسي تاريخي، كما ذكرنا، في حديث سابق لفرحة العرب العارمة بفوز المرشح الديمقراطي ذي الاصل الافريقي باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية الامريكية، نجدها ليس لدى الناس العاديين فحسب، بل لدى اقسام وشرائح واسعة من النخبة السياسية على اختلاف مشاربها وانتماءاتها السياسية والدينية، حتى بالرغم من ادراك العديد من هذه الشرائح والاقسام لضآلة التغيير المعول عليه الذي سيحدثه أوباما في السياسة الخارجية تجاه منطقة الشرق الاوسط في عهده الوشيك باتخاذ مواقف، على الاقل ان لم تكن متوازنة ومحايدة بين العرب والاسرائيليين، فمواقف أخف عداء ازاء العرب وأقل تشدداً في الانحياز المطلق لاسرائيل ودعمها السياسي والعسكري في مختلف الاحوال والظروف كما دأبت على ذلك كل الادارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة على امتداد اربعة عقود ونيف منذ هزيمة يونيو 1967م.
هذا الاحساس النفسي بالأمل والفرحة العارمة الذي تولد في نفوس العرب مبعثه ليس ما ارتكبته الادارة البوشية الحالية الموشكة على الانتهاء من مظالم وجرائم بحق العرب وعلى الاخص العراقيون والفلسطينيون فحسب طوال حقبة ولايتيه المتعاقبتين، بل للتماهي اللاشعوري مع القادم الجديد الى البيت الابيض باعتباره وابناء جلدته هم شركاء لنا في الاضطهاد والمظلومية العنصرية على ايدي الطبقة الحاكمة البيضاء في امريكا طوال عقود طويلة سواء تجاهنا نحن العرب وعلى الاخص منذ انشاء اسرائيل عام 1948م، أم تجاه السود المستعبدين طوال بضعة قرون منذ استرقاقهم وشحنهم مكبلين في سفن العار عبر المحيط الى العالم الجديد.
ولهذا لربما يكون الاعلام العربي هو اكثر الاعلام العالمي حديثاً عما يرمز إليه انتصار أوباما من معان وابعاد عنصرية باتجاه آفاق تلاشيها ازاء السود، والتطلع بأمل كبير نحو انحسارها تجاه العرب والمسلمين. وعلى الرغم من كثرة الكتابات والمؤلفات الصادرة في السنوات الاخيرة عن كيف ينظر الينا الاخرون على شاكلة عناوين من قبيل “العرب في عيون الفرنسيين” او “العرب في عيون الأمريكيين”.. إلخ أو كيف ينظر الغرب، وعلى الاخص الامريكيون، الى السود فإن قليلة هي الكتابات والدراسات العربية التي تناولت كيف تنظر الذات العربية نفسها الى الآخر المختلف عنها ليس تجاه الاجنبي المختلف عنها لغة وقومية او ديناً، بل حتى تجاه بعضهم بعضاً، إذ قلما نظرت الذات العربية وتمعنت في نفسها امام المرآة.
فمع اننا نحمد الله سبحانه وتعالى بأننا كعرب وكمسلمين لم نقع تاريخيا في الآثام والجرائم التي ارتكبتها امبراطوريات ومجاميع من المسيحيين باستعمار واسترقاق معظم شعوب العالم واضطهادها ونهب ثرواتها فضلاً عن ممارسات اضطهادية واسترقاقية قائمة على الكراهية العنصرية الا انه من يستطيع منا ان يكابر بأن شيئا على الاقل من العنصرية مازال يسكن في ارواحنا وفي نفوسنا كنزعات عصية على الاقتلاع والتطهير؟ فإذا ما جئنا الى الموقف من “السود”، حتى تجاه اخوة لنا في القومية والدين منهم، فمن ينفي منا النظرة الصريحة او المكتومة المتعالية تجاههم، بل نعت من تحمل بشرته هذا اللون الغامق بـ “الاسود” او “العبد”؟ ولا تقتصر هذه الممارسات على الناس العاديين بل تمتد الى اقسام غير قليلة من المثقفين في ازدواجية مكشوفة وبخاصة حينما يكتب المثقف او السياسي مندداً بأمريكا والغرب لتمسكهما بهذه النزعة على نقيض ممارساته او ما هو مستقر في نفسه من نزعة كامنة عنصرية. وخذ على سبيل المثال نظرتنا الدونية تجاه المرأة وقدراتها العقلية والعلمية والمهنية، وبضمنها على سبيل المثال قدراتها وكفاءتها في السياقة على عكس ما يدبجه العديد من مثقفينا من مقالات تتشدق بالدفاع عنها وحقها في المساواة مع الرجل وتمكينها السياسي.. الخ.
وانت لاحظ معي ايضا كيف هي نظرة اهل المدن، وعلى الاخص العواصم، الازدرائية المتعالية المزمنة تجاه الفلاحين واهل القرى التي لا يكاد بلد عربي يخلو منها.
وانظر كذلك كيف هي نظرتنا الى الهنود برمتهم كنموذج للجهل والغباء فيما هم اصحاب واحدة من اعرق الحضارات البشرية التي مازالت معطاة حتى في عصرنا الحديث. وقس على ذلك نظرتنا الى من يختلف معنا في الديانة او في المذهب او في الطائفة او الفكر، أو حتى من لا يعتنق أياً من هذه المعتقدات. كما يمكن القياس على ذلك نظرتنا، كشعوب، تجاه بعضنا بعضاً سواء على المستوى الخليجي ام على المستوى القومي وفق ثنائيات من القيم المتضادة: بدو متخلفون مقابل مدنيين متحضرين، بخلاء مقابل كرماء، نساؤهم معروفات بسرعة الانحراف والزنى مقابل نسائنا المعروفات بالعفة، معروفون بالجلافة والنزق وسرعة الغضب مقابل ما هو معروف عنا بالطيبة وسعة البال والاريحية، معروفون ببطرهم وثرائهم النفطي الفاحش وولعهم بالنساء والقصور، مقابل عصاميتنا ومحدودية دخل وفقر ابناء شعبنا والمبتعدين عن الملذات والفساد.
ينقل عن تومان سول في بحث اجراه في جامعة جورجيا ان الاشخاص الذين يمتلكون شعورا عنصريا يتعاملون به مع الآخرين على أساس عقائدي او نوعي (الجندر) أو طبقي هم في الاساس يعانون مشكلات او اضطرابات نفسية واجتماعية واسرية أضحت حاجزاً ضد القدرة على تواصلهم مع الآخر. ويزداد وينتفخ عادة لديهم مركب النقص والتناقض مع القيم التي يتباهون بتبنيها والدفاع عنها لانهم عاجزون عن النظر لأنفسهم في المرآة.
كما ينقل عن المؤلف “ج. ك. فريمان” في كتابه “العنصرية إبعاد للذات والآخر” ان مشاعرنا العنصرية تجاه الاخرين ما هي الا وسيلة دفاعية لاثبات وجود الذات المتواضعة او الوضيعة، ان صح القول، ومن ثم خير وسيلة لستر هذه الذات العارية اخلاقيا والمتصحرة فكريا او حضاريا هو الهجوم الوقائي على الآخر الذي يتحلى بهذه القيم والمزايا الاخلاقية والفكرية.
والحال اننا لن نستطيع ان ندافع عن انفسنا ضد غول العنصرية العالمية ما لم نطهر ذواتنا من ادرانها العنصرية محلياً، ولم تكن العنصرية العالمية لتطاولنا سهامها لو لم تكن رواسب هذه الادران بكل اشكالها متأصلة تاريخيا واجتماعيا وثقافيا في نفوسنا وان بدرجات متفاوتة.
صحيفة اخبار الخليج
11 نوفمبر 2008