لقد كان انزلاق اليمن لصراعات العصور الوسطى نتيجة طبيعية لضعف قوى الحداثة، وعدم نمو عناصرها الديمقراطية الداخلية، وبدا ذلك في الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي اللذين أرادا قيادة اليمن إلى الاشتراكية والرأسمالية معاً!
وكان اليمن يواجه ظروفاً صعبة، فقراً وتضخماً في البطالة ونزيفاً سكانياً مستمراً للخارج، ومواقف خاطئة في الحروب الداخلية والخارجية، فتدحرج مشروع النهضة على صخرة القبلية والمناطقية والمصالح الخاصة المتحكمة!
لقد أدى ذلك إلى التفكك المناطقي، وبدء انفصال الجنوب عن الشمال بطريقة سلمية فسادت المظاهرات والاحتجاجات على سوء توزيع الثروة بين الأقاليم وعلى اقتصار الجيش على منطقة واحدة وقبيلة، وعلى سوء الإدارة.
(واجه النظام السياسي الحاكم في اليمن في الآونة الأخيرة عاصفة من الأزمات السياسية، من الواضح أنها مع اعتصام المتقاعدين العسكريين في المحافظات الجنوبية، والمظاهرات التي شملت معظم أنحاء البلاد والمعترضة على غلاء أسعار المواد الغذائية، بدأت تهز عرش السلطة المكين ولم يجد الرئيس صالح في ظل هذه الوضعية الصعبة إلا أن يعلن مبادرة سياسية، كمحاولة للحد من تصاعد وتيرة الاعتراضات الشعبية على سوء أوضاع الحياة الاقتصادية، وعجز الدولة عن القيام بوظائفها نتيجة تفشي الفساد في مؤسساتها، ومن جانب آخر محاصرة القوى السياسية المعارضة المهددة لحكمه، وتجاوز مشروعها السياسي بمبادرة تحمل في مضمونها إصلاحات سياسية جذرية.)، (العربية، أكتوبر 2007).
إن بعض المطالب الشعبية كان صحيحاً ومهما إذا أُخذ في إطار وطني توحيدي وليس من أجل استثمار النزعات القبلية والمناطقية لزعزعة الدولة، ولكن إذا كان جهاز الدولة متصلباً في مركزيته، وشمولياً في قرارته، فإن قوى المعارضة المتخلفة سوف تستفيد من أخطائه وتطرح شعارات مضيئة جميلة بمضمون طائفي متوار، وهذا ما حصل خاصة في أخطر تمرد واجهه اليمنُ الموحد فيما بعد وهو تمرد الحوثيين.
(أما فيما يخص الحكم المحلي في ظل التركيبة الاجتماعية فإن النخب القبلية ستهيمن على الحكم المحلي، وهي قوى اجتماعية في معظمها مؤيدة للرئيس ومرتبطة بالحزب الحاكم، وحتى في حال إفراز الحكم المحلي لنخب سياسية جديدة فلن يكون للإسلاميين نصيب فيها، على الأقل في المستقبل المنظور، فالانتخابات المحلية السابقة أثبتت قدرة الحزب الحاكم على تشكيل تحالفات تتناقض مصالحها مع الفئات الاجتماعية التي تمثل الإسلاميين)، (العربية، المصدر السابق).
لكن النظام وجد ان قطب المعارضة تحول من الجنوب للشمال وتجسد في شريكه السابق حزب الإصلاح، فعمل على زعزعة وجوده وإنتاج مشكلات سياسية جديدة.
ونجد هنا كيف أن المذهبية السنية المحافظة تنتج شكلين متنافسين، أحدهما يجثم في السلطة ويحاول أن يمكيج نفسه ببعض الشعارات الليبرالية لكي يعطي لنفسه التمايز السياسي عن حزب الإصلاح المذهبي المحافظ الذي يقوم بالاستعانة بقوى مضادة لا لشيء سوى هزيمة غريمه حزب المؤتمر!
أخطر ورقة استعملها حزب المؤتمر الشعبي الحاكم كانت ورقة (الزيديين)، فهذه كانت فرقة إمامية معتدلة تقارب أهل السنة في الكثير من الأطروحات الدينية، وقد حركها الحكم لكي تناوئ حركة الإصلاح، فغذى ونمى الصراع الطائفي.
ولكن تفجر ورقة الحوثيين بيّن المدى الرهيب الذي يمكن أن تؤدي إليه الصراعات المذهبية السياسية واستغلالها من قبل أطراف محلية وإقليمية، وكم الخسائر الذي تسببه لبلد شديد الفقر!
وتغذية الصراعات الطائفية المتزايد في اليمن يعاكس ويناقض إخفاء وتحجيم الصراع الاجتماعي، فالقوى السياسية الحاكمة والمعارضة تلجأ، مع فشل سياستها ولعدم سيطرتها على الحراك الاجتماعي المنفلت بسبب هذه المرجعيات القروسطية، إلى استثمار الصراعات المذهبية وتأجيجها لعجزها عن تنمية الصراع الاجتماعي بشكل سلمي حضاري، اتجاهاً لحل مشكلات الناس.
وقد استفاد زعماء الزيدية من هذه الانتهازية الوطنية المتصاعدة، فتحولوا إلى لاعب أساسي في الساحة.
هناك من يربط نشاط الزيدية وتصاعدها بالسياسة الإيرانية ودورها في اختراق الدول الإسلامية والتأثير في سياساتها لكي تغدو اللاعب الأكبر في المنطقة.
وهذا لا ينفصل عن استغلال تنظيم القاعدة من قبل أطراف أخرى لضرب السياسة الأمريكية التي يتعاون معها النظام اليمني في السنوات الأخيرة، وبدا انه يربط مصيره بها.
وعموماً صار النظام اليمني ساحة صراعات وطنية وإقليمية كثيرة، وجدت من تفكك العلاقات السياسية الداخلية، ومن تفكك خريطة البلد الجغرافية، ومن تفاقم مشكلات الفقر والبطالة والكوارث الطبيعية فرصاً لاستثمار النقد الشعبي في مخططاتها السياسية، التي تتراوح بين النضج المسئول والحماقات بل الجرائم العسكرية.
وضاعت الخيارات التحديثية الديمقراطية الوطنية المتوحدة التي كانت باكورتها تعاون حزب المؤتمر والحزب الاشتراكي، والتي لم تعد مطروحة تماماً، وصار خيار الانفصال يتعمق في الجنوب، وتستغله قوى متضررة من الوحدة وحربها، كما يتعمق خيار الانفصال في محافظة صعدة. لكن كل هذه الخيارات غير سليمة، ومضرة، وخطرة على التطور السياسي اليمني، الذي يجب أن يعود إلى الوحدة وحوار القوى الوطنية من أجل انقاذ البلد من مسلسل الانزلاق الكلي للحرب الأهلية الواسعة.
لابد أن يعيد كل طرف الرؤية تجاه ما جرى وأن يبدأ الجميع من النقطة التي تمت مغادرتها وهي صراع قوى اجتماعية سياسية متحضرة وليست صراع قوى دينية وطائفية ومناطقية.
صحيفة اخبار الخليج
10 نوفمبر 2008