منذ أن ترسخت الرأسمالية كنظم اقتصادية اجتماعية ترسخت معها تناقضاتها الرئيسة والثانوية في العلاقة ما بين العمل ورأس المال. من أهم هذه التناقضات التناقض بين الطابع الاجتماعي للعمل والإنتاج، وبين الطابع الخاص للملكية وللاستحواذ، وما ينتج عن ذلك من سياسات اجتماعية محددة. ومع تعمق تقسيم العمل المحلي والعالمي وتوسع عملية تدويل العمل والإنتاج (أو ما اكتسب اسم العولمة منذ أواخر القرن الماضي) يتسع طابعهما الاجتماعي على المستويين الوطني والعالمي.
لقد أصبح عالمنا مترابط العلاقات والوشائج بشكل عضوي. وليس أكثر من بلادنا تجسيدا لاتساع الطابع الاجتماعي للعمل بمعنى العالمية. فمنذ زمن طويل نسبيا غدت الطبقة العاملة هنا بتركيبتها المتعددة القوميات وبمصالحها المتداخلة أممية بكل ما للكلمة من معنى. وليس أكثر من بلدنا أيضا تجسيدا لعالمية رأس المال، ورأس المالي قبل غيره. فهنا بالذات، وعن طريق مصارف (الأفشور) يتم ذلك الترابط العضوي الذي لا فكاك منه بين رؤوس الأموال المحلية والأجنبية في تبعية ذيلية للأخيرة. والنعت الأخير ليس، للأسف، سوى تقرير واقع لطبيعة تشابك المصالح بين ممثلي رأس المال المحلي والأجنبي.
إذن، وسواء عجبنا ذلك أم لا، يلعب التناقض بين طرفي العلاقات الاجتماعية دوره في بلادنا بالمضمونين الوطني والعالمي بكل قوة. ولنضرب بذلك مثلا سريعا بما ذكرنا أعلاه حول العمالة الأجنبية والمحلية. ألم تشهد السنوات الأخيرة إضرابات عمالية مشتركة ضمت أجانب ومحليين؟ أولم يحذر وزير العمل وغيره مرارا من أننا سنصبح في المستقبل عرضة للضغوط العالمية من أجل الإقرار بالحقوق الكاملة للعمال الأجانب ليس اقتصاديا، بل واجتماعيا وربما سياسيا؟ الجواب: ‘بلى’، وليس بالنسبة للعمال الأجانب وحدهم.
وبما أن الدولة على المستوى المحلي كانت ولاتزال تعكس مصالح القوى المتنفذة بدرجة أساسية، والمجتمع المدني يشكل في الغالب تجمع قوى الطرف الآخر من العلاقات الاجتماعية، فإن تلك المقدمة من علم الاقتصاد السياسي ضرورية لفهم طبيعة العلاقات التي تربط الدولة بدول العالم الأخرى في عالم عضوي الترابط، وكذلك العلاقات التي تربط مكونات المجتمع المدني البحريني بمثيلاتها على المستوى العالمي في عالم عضوي الترابط أيضا.
داعي هذا الحديث هو ما يدور هذه الأيام من جدل ساخن حول العلاقة ما بين مكونات المجتمع المدني والقوى السياسية البحرينية والعالم الخارجي، وهو جدل مشروع كذلك عندما يدور حول العلاقات الرسمية بالدول الأخرى، خاصة الكبرى التي تزيد من خلالها أدوات الضغط والتدخل الخارجي أكثر من تلك العلاقات التي تمر عبر قوى المجتمع المدني. فمن ناحية موضوعية لكل من هاتين العلاقتين فوائدها ومخاطرها الجمة على المصالح الوطنية اعتمادا على حسن أو سوء استخدام أي من الطرفين المحليين لها. وإذا كان لكل منهما مسار تطوره التاريخي منذ سنوات طويلة، فإنه وفي سياق التطور العولمي الراهن ليس من المنطقي أبدا الحديث عن إمكانية وقف أي من شكلي العلاقة، لكن الحديث ممكن فقط حول جعل كل منهما يشكل عاملا مساعدا وقوة إضافية دافعة للمضي قدما في بناء الدولة العصرية القائمة على القانون والمؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان ولعملية التنمية المستدامة القائمة على المصالح الوطنية والتبادل المتكافئ للمنفعة مع العالم الخارجي.
وبما أن الجدل يتركز الآن حول النشاط الخارجي لبرلمانيين معارضين وتلويح وزير الداخلية لهما ولغيرهما بعصا القانون، فإننا سنركز على هذا الجانب. العلاقات السياسية وفي مجال حقوق الإنسان والشباب والطلاب والنساء وغيرها مع الخارج قديمة قدم تاريخ الأحزاب والمنظمات القطاعية والاجتماعية البحرينية. وإذا ما ألقينا من الحاضر نظرة للوراء سنجد أن هذه العلاقات خدمت إلى حدود بعيدة تعجيل إعلان المبادرة الإصلاحية في عام 2001 حتى قبل أن تطرح الولايات المتحدة الأميركية مشروع الشرق الأوسط ‘الديمقراطي’ الكبير. أما وقد تتابعت الإصلاحات السياسية المنقوصة في بلدان عربية ومناطق أخرى من العالم، فقد تنامى الإحساس لدى قوى المجتمع في هذه البلدان بأهمية تنشيط أدوارها لتبادل الخبرات فيما بينها والعمل المشترك من أجل الدفع بالعملية الديمقراطية قدما في بلدانها مجتمعة. ونشأت ظاهرة التشبيك بين قوى المجتمع المدني المتشابهة والمختلفة الوظائف وعلى المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية. وأصبح صوت هذه المنظمات يدوي عاليا في قاعات هيئة الأمم المتحدة وفي المحافل الدولية الأخرى ويجد آذانا صاغية لدى الرأي العام الشعبي والرسمي في المجتمع الدولي. وليس من الطبيعي أن يقول ممثلو المجتمع المدني رأيا في الداخل ونقيضه في الخارج. بل الطبيعي أنه كلما كانت الدولة أكثر جدية في المضي على طريق الإصلاحات الديمقراطية شكل طرح ممثلي الطرف الآخر جرس إنذار لسد الحفر والمطبات التي تعترض هذا الطريق.
يجب احترام القانون، نعم. لكنه يجب أيضا احترام إرادة الإصلاح عند الطرف الآخر حين تفسير وتطبيق القانون. والأكثر من ذلك، يجب مقاربة منظومة القوانين برمتها بشكل أكثر وعيا. ولعل من المفيد هنا تكرار أن القاعدة التشريعية غالبا ما تتخلف عن تطور الواقع المعاش ومتطلبات تطوره. ولهذا تأتي مهمة السلطات تسهيل تجاوز القوانين التي أصبحت تعوق التطور وإحلال القوانين التي تخدمه وليس العكس.
يبقى أنه لا أحد يستطيع تبرئة كل المنظمات العاملة حول العالم من احتمال وجود أذرع مخابرات البلدان الكبيرة، خاصة، في هذه أو تلك، وأن الأهداف الإنسانية السامية تستخدم أحيانا من أجل لي ذراع بلد ما لخدمة مصالح بلدان أخرى. وإذا ما ثبت وأن وقع أحد ما ‘ضحية’ ذلك، فللقانون أن يقف بالمرصاد. غير أن شيئا من هذا القبيل لم يثبت بالدليل المادي لحد الآن بحق أي من ناشطي العمل السياسي والاجتماعي في بلادنا، ولله الحمد.
صحيفة الوقت
10 نوفمبر 2008