يبدو أن الكتابة باتت أسهل شيء يمكن للمرء إتقانه ، صار حرفة من لا حرفة له ، الكل صار موهوب في ميدان الكتابة ، وفارس في مضمــار اللغة ، لم تعد الكتابة قلق أو هم أو أرق ، لم تعد تجربة أو خبرة أو مسئولية ، إنها سهلة للغاية ، فبمجرد أن تضع إصبعك على أي حرف من الحروف تسيل الأبجدية ويفيض نهر اللغة وتمطر السماء كلاما من ذهب ..
كل كتابة تصدر عن شخص يكتب للمرة الأولى هي حالة إبداعية ، وكل كتابة أولى هي أولى في كل شيء ، ليس شرطا أن تتعلم الكتابة أو تتهجى حروفها ، فهي موجودة فيك قبل أن تعرفها أو تعرفك ، وأنت مفطور بها حتى لو لم تكتبها ..
أكتب مادام هناك من يحتفي بك حتى قبل أن تكتب ، ويبجلك أثناء الكتابة ، ويقدسك حينما يعلم أنك أفشيت كتابتك على الملأ وأصدرتها في كتاب وأطلقت عنانها في مضامير معارض الكتاب ..
أكتب فالكتابة ربما نزلت قبل إقرأ ، أنت الأسبق والقراءة متخلفة عنك ، أنت كتبت وغيرك يقرأ ,أنت تكتب وليس مهما أن تقرأ ، وإذا كتبت وكتبوا فانتظر حتى يأتي من يقرؤك ويقرؤهم ، وإن لم يأت فاكتب وإن ظللت العمر كله تكتب ، فلربما خلقت من أجل أن تكتب ويكتبون ولا تقرأ أويقرؤون ..
ماذا يعني أن تكتب ؟ ليس مهما أن تفكر لماذا كنت تكتب ، لذا لا يعنيك تماما معنى أن تكتب ، الأوراق كثيرة والأقلام والأحبار كثيرة والمروجون أيضا ، كل ما تحتاجه هو ملكك ، وأن تملك الكتابة يعني أن تملك المعرفة ، وإذا ملكت المعرفة ليس بالضرورة أن تعرفها ما دمت تكتب ..
المكتبات تعج بالكتب وبالكتابة وأنت يا من كنت تكتب للمرة الأولى صرت واحدا ممن احتضنتهم المكتبات ، المكتبات كثيرة وكذلك مقدموا التزكيات في أول الصفحات ، الكتب كثيرة وكذلك الأوراق ..
المفكرون ندرة وأنت المحظوظ بالكثرة يا من تكتب ، المفكرون يشهرون كتابتك ثم يخلون الساحة لحروفك ، ماذا تريد أكثر ؟ ..
أكتب واصدر ما كتبت وستجد دون استغاثة من يعلن حفل توقيع كتابك , أكتب فالكتابة عيد ميلاد يومي خاصة في المجتمعات المصابة بداء السكر بسبب الإحتفال اليومي بالكتابات الجديدة التي يبزغ فجرها في كل فجر وليل وتناول الحلويات قبل وبعد كل احتفال..
أكتب فكم هو جميل أن تتلقف المطابع حروفك وصورتك الشخصية لتطلقها بعيد هنيهة في فضاء الإبداع ، كل سيراك ويهيل عبارات الإطراء على كل ما كتبت حتى لو اكتفى بقراءة عبارة واحدة مما كتبت ..
لا داعي لأن تقوم بمهمة توزيع كتابك الأول على الأقربين والأبعدين ، فهناك من سيتولى توزيعها وتوزيعك أيضا قبل أن تصدر كلماتك فـــي كتاب ..
أكتب وصدق دائما ما كتبت وأنك كاتب ،ذلك أنه لا أحد سوف يكذبك أو يشكك فيك ، فأنت الصادق وهم الأمناء على مصداقيتك ..
أكتب فليس ديستويفسكي أو همنغواي أو شكسبير أو كازانتزاكيس أو تشيكوف أو الكوني أو غيرهم من شيوخ الكتابة ، ليسوا أحسن منك ، فهم يكتبون وأنت أيضا تكتب ، هكذا قال لك من دلك على طريق الحرف بعد أن احتفى بحروفك الأولى في إحدى الأماسي ، وبعد أن صفق لك الكل وهتف على ضوء ما قال وما كتبت ، بعدها صرت تكتب نفس الكلام وبنفس الحروف وفي كل كتابة يحتفي بك نفس الدليل ويصفق لك نفس الحضور وصرت لا تعرف بعدها شيء يطلق عليه تكرار أو اجترار أو تشابه ، فأنت جديد حتى لو كررت وتكررت واجتررت نفس الكلام ، لم تفكر قط أنك كنت يوما ضحية كذبة أو خدعة ، كنت مذهولا فقط بلوحات الدعاية اليومية التي تثير رغبتك في أن تكونها في الشارع أو في الفضائيات أو في الصحافة أو في المواقع الإلكترونية التي ترى نفسك فيها أو تتمنى أن تراها إلى الأبد قبل كتابتك ..
من قال أن الكتابة فعل فقد أخطأ ، ومن قال أنك لا تفعل حين تكتب فقد أخطأ ، ومن قال أنك لا تدرك خطأك في الكتابة فقد جانب الصواب لأنك الصواب دائما في كل ما تكتب ..
أكتب فإن أردت أن تصل سريعا فامضي في كتابتك وحدك وإن أردت أن تذهب أبعد فاذهب مع من صدق أنك كنت ولا زلت تصل ســــريعا حيـــــن تكتب ..
أكتب ودر ظهرك لأول من احتفى بك إذا وجدت احتفاء من آخر أحسن منه ، أكتب وتذكر أنك وحدك فقط من يكتب وأن كل من يكتب معك أو يوازيك الكتابة هو أيضا وحده الذي يكتبك أو يكتب عنك لتظل وحدك الذي يكتب ..
إذا كانت هناك حكمة في الكون فهي من بنات كتابتك وإذا كان هناك قول مأثور فأنت صاحب الأثر فيه وإذا كانت هناك فلسفة في الوجود فأنت ناظرها ، جهلاء بلهاء حمقى من قدموا أنفسهم ضحايا وشهداء للكلمة والحرف لأن الكلمة لا تصدر عن معاناة ، هي حبر على ورق فحسب وأنت اخترت الحبر والورق لأنهما الكتابة وما المعاناة إلا ظل عابر لا يستقر على ورق ..
أكتب فليست الكتابة فعلا للتحرر من الآلام الجسدية المبرحة والهواجس واليأس والخوف ، إنها أسهل من ذلك بكثير ، إنها باختصار شديد أن تكتب وغيرك يتبع حروفك ومتعتك الحقيقية في أن يلهث وهو يتهجى هذه الحروف ..
ما دمت تكتب فأنت مبدع وما دمت مبدع فليس مهما أن تفكر فيما كنت تكتب أو كتبت أو ستكتب ، فقانون الإبداع هو أن تكتب فحسب وقد أخطأ الكاتب الراحل المبدع يوسف إدريس حين قال : لا يستحق أن يولد من كتب لنفسه فقط ، فهاهو قد غادر الكتابة حين كتب عن غيره ، وأنت ستظل تكتب لأنك اخترت أن تكتب لنفسك وغيرك يغادر لأنه يكتب عنك ، فما أسهل درب الكتابة في زمن الإحتفاء بموتها !! .