جاء تأسيس شركة المنيوم البحرين “ألبا”، الذي يمر عليه هذا العام 40 عاماً بالتمام، بعد 3 أعوام فقط من أحداث تسريح شركة نفط البحرين “بابكو” لمئات العمال في عام 1965 حيث تسببت هذه الأحداث في اندلاع انتفاضة عمالية شعبية عارمة استمرت شهوراً.
ومثلما شكّل تأسيس “بابكو” في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي حدثا تاريخيا مفصليا ونقلة إنتاجية مهمة في تغيير اقتصاد البلد من النمط البدائي التقليدي المعتمد على الزراعة وصيد الأسماك واللؤلؤ والحرف التقليدية التي تلبي الاحتياجات الاستهلاكية المحلية، فضلاً عن توفير فرص العمل لآلاف الأيدي العاملة الوطنية، فيمكن القول ان تأسيس “ألبا” هو الحدث الثاني التاريخي الأهم والأبرز من حيث كونها ثاني أكبر مؤسسة إنتاجية صناعية حديثة تنشأ في البلاد وتضم في صفوفها المئات ثم الآلاف من العمال البحرينيين..
وكلتاهما غني عن القول ما لعبه ويلعبه إنتاجهما في اقتصادنا الوطني من فتح فرص متجددة للوظائف وتدريب الأيدي العاملة الوطنية المهرة ورفع معدلات التنمية.
وإذا كنا نردد دائماً في خطاباتنا وأدبياتنا، السياسية، الرسمية بوجه خاص، وفي خطابات أصحاب الأعمال بوجه عام، ان الإنسان هو هدف التنمية، وهو الثروة الحقيقية، ورأس المال الأهم والأوفر في الإنتاج، أو في الاقتصاد الوطني والخطط الاقتصادية، فلعل أكثر الأمكنة التي يمتحن فيه هذا الشعار حقا لقياس مدى مصداقية تطبيقه الفعلي على أرض الواقع هي الأمكنة والمواقع الإنتاجية، ولاسيما الكبرى منها، وعلى وجه الخصوص شركتا إنتاج النفط “بابكو” وإنتاج الألمنيوم “البا” حيث عانت الأيدي العاملة الوطنية والوافدة لعقود طويلة في هاتين المؤسستين العريقتين، ولاسيما الأولى التي تعد الأكثر عراقة، من ظروف بيئة عمل بالغة القسوة والسوء راح ضحيتها عشرات العمال بإصابات بليغة أو عاهات مستديمة أجيالا إثر أجيال، ناهيك عن وفاة عشرات العمال موتا في تلك الظروف الإنتاجية السيئة، دع عنك تدني الأجور والعمل لساعات طويلة.
وزاد من خطورة هذه الأوضاع وديمومتها ان المكتسبات الحقوقية العمالية النقابية ظلت غير متحققة على امتداد تلك العقود الطويلة، رغم ما قدمته الحركة العمالية من تضحيات كبيرة في سبيل ذلك.
نسوق هذه المقدمة الطويلة لنبين كم هو الفارق في أوضاع كلتا المؤسستين اليوم، سواء من حيث الإدارة والقيادة والنظم الإدارية السائدة في كل منهما في تفهم متطلبات الحقوق العمالية وتحقيق بيئة العمل السليمة لزيادة الإنتاج، وعلى وجه الخصوص بسلامتهم وصحتهم المهنية وحقوقهم الإنتاجية الأخرى، أم من حيث الأجور. وما كانت كل المكتسبات ان تتحقق لولا تضحيات الحركة العمالية والنقابية ووحدتها على امتداد تلك العقود الصعبة الطويلة التي تبلورت وأوتي أكلها بعد إعلان المشروع الإصلاحي لجلالة الملك في بدايات العقد الحالي.
صحيح ان الطموحات الحقوقية والمكسبية مازالت أكبر مما تحقق لكن المكتسبات المتحققة ليست هينة إذا ما تذكرنا بأنها إلى ما قبل عقد مضى فقط كانت أشبه بالحلم المستحيل، ولاسيما فيما يتعلق بحق التنظيم النقابي على كل المآخذ التي يأخذها النقابيون على قيوده القانونية. وبالتالي فهي مكاسب يمكن الانطلاق منها والبناء عليها لتحقيق المزيد من المكتسبات، شريطة التحلي بأقصى قدر ممكن من الوعي النقابي العمالي وشريطة وحدة العمل النقابي في كلتا المؤسستين الوطنيتين الكبيرتين بعيدا عن النزعات الفئوية والمناكفات المذهبية والحزبية والفردية المصلحية. فليس ثمة خطر قاتل لأي حركة نقابية أكبر من هذا وخطر هذه النزعات اذا ما سادت العمل النقابي في أي مؤسسة نقابية.
وبهذا يمكن القول من دون أدنى مبالغة ان الصورة التي نشرتها صحف يوم سبت الأسبوع الماضي والتي برز فيها عشرات العمال في صفوف منتظمة بشركة “ألبا” للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات النقابية الأخيرة التي جرت عمليتها بمختلف مراحلها في هدوء وشفافية وسلاسة كان مشهدا تاريخيا حضاريا استثنائيا يشي بالكثير من المغزى والدلالات. وهو بقدر ما يسجل لصالح نقابة “ألبا” فإنه ينبغي الإقرار بأنه يصب في ذات الوقت لصالح سمعة إدارة هذه الشركة وسمعة القيادة السياسية للدولة والحكومة على حد سواء.
أما الدرس الثاني الفائق الأهمية الذي يمكن استخلاصه فيتمثل في تغلب الوعي النقابي الصحي والحس الطبقي خلال الانتخابات الأخيرة على مختلف أشكال الوعي المضلل والنزعات الفئوية والحزبية و”الشخصانية”، فالذين صوتوا للقائمة الفائزة “الكتلة العمالية” لم يصوتوا لوجوه حزبية محددة، أو لوجوه مذهبية، أو لوجوه تبحث عن الزعامة والمصالح الشخصية، بقدر ما صوتوا في المقام الأول لمن يرون بأنهم قادرون على الدفاع عن مصالحهم العمالية بكل تجرد أيا تكن انتماءاتهم الدينية أو السياسية أو العرقية أو الحزبية أو المناطقية، بصرف النظر عن أي دور لأي تيار قد يقال هنا في ممارسة اللعبة التي أفضت الى هذه التشكيلة الرائعة الفائزة التي تمثل بحق نسيجنا الوطني الذي يراد تمزيقه في هذه الظروف الدقيقة البالغة الحساسية التي تمر بها جبهتنا الداخلية ووحدتنا الوطنية، وهذه التشكيلة تذكرنا مع اختلاف الظروف بقائمة تكتل الشعب الانتخابية الفائزة في انتخابات عام 1973 البرلمانية بغض النظر عن أي دور معروف تاريخيا لعبه ذات التيار للوصول الى التشكيلة النيابية الفائزة حينذاك.
ولعل الدرس الثالث المستفاد من كل ذلك يتمثل في استحالة التلاعب دائما بعواطف الناس الدينية أو الفئوية في الظروف الملموسة المحددة المتعلقة بمصالح شريحة اجتماعية واضحة ومحددة أيضا. فالعمال الناخبون هنا لم يكن يهمهم معتقدات المرشحين الدينية أو قومياتهم أو أصولهم العرقية بقدر ما كان يهم هذه الشريحة ان تأتمن بأصواتها على من يمثل مصالحها وحقوقها فعلا، وهذا هو الدرس الأهم الذي يجب الاستفادة منه للارتقاء ليس بوعي العمال ومختلف فئات هذه الشريحة فحسب، بل بوعي عامة الناخبين على اختلاف فئاتهم وشرائحهم الاجتماعية في الانتخابات العامة الكبرى، كالانتخابات البرلمانية والانتخابات البلدية، وهي الانتخابات التي تعد حملاتها الأكثر صعوبة في توعية الناخبين من شرائح مختلفة بقواسم حقوقهم المشتركة، وحيث تكون فرص التلاعب بوعيهم السياسي الاجتماعي أكبر من قبل اللاعبين على الأوتار الفئوية الطائفية والحزبية والدينية، والقدرة على تشويش وعيهم من خلال إثارة نعرات هذه النزعات بدلا من التنافس الحقيقي على البرامج والشعارات والأشخاص المرشحين الذين يمثلون مصالح الناس أيا تكن انتماءاتهم المختلفة.
أخبار الخليج 9 نوفمبر 2008