المنشور

الانتخابات الأمريكية والاقتراع التاريخي


بدت الانتخابات الأمريكية مثل سباق الماراثون الطويل، فهي بحاجة ماسة للياقة البدنية بعد التحضير الكبير لها والمستلزمات الضرورية بما فيها القدرات الذهنية والبدنية للركض والتنفس، ويبدو من الوهلة الأولى وبمقارنة سريعة فان العجوز جون ماكين يتظاهر بعافيته المنهارة وبشيخوخته المتعبة، عن انه قادر على إدارة البيت الأبيض وأوراقه وأجندته في السنوات القادمة، فيما برهن الشاب الصاعد باراك اوباما على انه الحصان الأسرع والأكثر قدرة على قطع سباق الماراثون بكل راحة، فمنافسه بدأ يتهالك في ركضه منذ الساعات الأولى لمناخ الانتخابات والمواجهات الحوارية في لقاءات تلفازية مكشوفة .
 ومن لاحظ اوباما المدرب تدريبا دعائيا جيدا، يلاحظ تعمده أن يدخل للمسرح الانتخابي في حركة راكضة لكي يقول للناخبين هأنذا بصحة وعافية جيدة للركض بكم نحو التغيير، بل ويتعمد أن يصعد وينزل من الطائرة ركضا مؤكدا انه ما زال لاعب كرة سلة جيد ولديه القدرة على تحقيق الأهداف الأمريكية البعيدة والقريبة كما حملها للناخبين أثناء حملته الانتخابية .
هانحن نقترب من بوابة دخول الإستاد منذ البداية أكدت على النسبة والنقاط التي يتفوق فيها اوباما على غريمه المنافس ماكين، والذي يتوهم بأن اختياره لشابة اصغر عمرا من ألاسكا، سيساعده على إخفاء نقطة ضعفه ألا وهو العمر أو الاحتماء بظل النساء وأصواتهن، فمقابل النظرة العرقية لمنافس اسود حاول أن يبعث برسالة للناخبين بأنه ضد التمييز بين الرجال والنساء، معلنا أن غياب امرأة منافسة له من الجانب الديمقراطي كهيلاري كلينتون لا يعني انه غير قادر على إلحاق امرأة كنائبة للرئيس تمثل نساء أمريكا، ولكن خيبة ماكين اختياراته وخياراته الفاشلة، إذ لم يعثر من بين كل أعضاء الجمهوريين من النساء إلا بولين، التي لم يغفر لها ملفها الشخصي والسياسي زلاتها الكبيرة بل وعدم قدرتها الكافية على فهم واستيعاب المعادلات الدولية الصعبة وأروقتها الخفية.
 إن العدّاء الأسود برهن دائما على اكتساحه الأرقام في مسابقات الجري القصيرة والطويلة، فلا غرابة أن نرى اوباما ينجزها هذه المرة كحامل تاريخي لحلم مارتن لوثر كينج، الذي حلم بمجتمع أمريكي لا يعرف التمييز العنصري، وكان على الأيدي الآثمة والخفية تصفيته كما صفت قبله بسنوات كينيدي، فكلاهما كانا يعبران عن رؤية جديدة للتغيير نحو الأفضل لمجتمع مدني أمريكي ينادي بالمساواة الكاملة بين مواطنيه ودون تمييز لوني .
اليوم يتحقق هذا الحلم الأمريكي، بل ويبرهن على أن الشعب الأمريكي شعب ديناميكي ومتحول نحو المستقبل، بل ويعلمنا أن الذين لم يصوتوا لاوباما ليسوا إلا جيلا من المتهالكين الكبار المعادين البيض، ومحافظين متزمتين لم يخرجوا من جلدتهم الكريهة والعنصرية، فيما برهن الجيل الشاب كأغلبية جديدة عن انه لا ينظر للزعماء والإنسان الأمريكي إلا بمقدار كفاءته ونزاهته وقدراته على قيادة البلاد نحو التقدم وانتشال البلاد من أزمتها الخانقة . وبانتصار اوباما في الانتخابات يدخل التاريخ الأمريكي مرحلة جديدة لن يعود بعدها إلى مقولة أن سدة زعامة البيت الأبيض حكرا على الإنسان الأبيض، فقد تحولت أمريكا الجديدة، أمريكا ما بعد مرحلة كولومبس، ثم ما بعد مرحلة أول كونجرس أمريكي لعام 1789 بلدا مختلف الألوان ومتعدد الأعراق والثقافات في كل المجالات، من أكبر منصب كان محتكرا إلى اقل وظيفة ممكنة . هذا الانتصار التاريخي ليس للزنوج وحدهم وإنما لكل أمريكا الباحثة دائما عن التغيير والإبداع والتجدد. وهو سر قوتها ومغامرتها واختراقها المستحيل . ما يمكن وصفه بالأمس مستحيلا صار اليوم ممكنا، ولن تقف الولايات المتحدة عند نقطة الثبات طالما أنها عقل ومجتمع ديناميكي لا يقبل الرضوخ للأخطاء بصورة مستمرة . ما يصعب علينا نحن العرب فهمه ذلك المجتمع المعقد والسهل الممتنع، والذي نختزله بسرعة من خلال سياسات خارجية أو إعلام مثير وسينما فاضحة وعنيفة، ففي بنية هذا النظام المتعدد مؤسسات كبيرة وأكاديميات ومراكز بحوث غنية بكل أنواع الدراسة والتطوير والتقدم .
بعد هذه اللحظة التاريخية لن نتذكر رواية “كوخ العم توم ” المؤلمة، تلك الرواية المكتوبة عام 1825 للروائية هارييت بيتشر ستاو، للهاربين بحثا عن الخلاص العبودي وأبطالها المنهكين البؤساء الباحثين عن حريتهم، ولن نقرأ بحزن ومعاناة مأساة تاريخ طويل من العبودية عرفها العالم الجديد، وكيف كانت العبودية وتجارة الرقيق مصدرا من مصادر تراكم الرأسمال الأمريكي . هذا العالم المكتشف من رحالة مغامر، سيكون قوة عظمى حتى هذه اللحظة، والذي كان مصدر الهام عمل سيمفوني جميل حمل نفس الاسم ” من العالم الجديد ” والمعروفة شعبيا باسم ” العالم الجديد ” للموسيقار التشيكي انتونين دفوراك والتي كتبها عام 1893، بعد أن زار الولايات المتحدة عام 1892حتى عام 1895، والمعجب بتلك القارة الوليدة والعالم المنبعث من وراء المحيط . وكانت بمثابة الموسيقى والعمل السيمفوني المعبر عن ذلك العصر والقرن الناهض للقارة .
لا أريد أن انشغل بسياسات ومعادلات خائبة، حول ماذا سيحقق اوباما من تبدلات خارجية تخدم استقرار وامن العالم، فتلك مسألة خارجة عن إرادة الرئيس فما يحرك العالم اليوم هي المصالح والتكتلات الاقتصادية، ولن تكون المسألة الأفغانية والعراقية والفلسطينية وغيرها طلاسم سحرية في خاتم اوباما، وإنما مصالح قومية عليا للولايات المتحدة، وكل ما سيختلف هو رؤية وتعامل الحزب الديمقراطي المختلفة مع الوضع العالمي، دون أن ننسى أن النظام الأمريكي في جوهره نظام رأسمالي، فسياسة الحزبين الديمقراطي والجمهوري تعبير عن ذلك الجوهر.

 
 الأيام 9 نوفمبر 2008