ستظل الذاكرة البشرية تتذكر لفترة طويلة وصول أول ملون، خلاسي – من أصل كيني- لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية ، قلعة العنصرية الحصينة ورأس المنظومة الرأسمالية السائدة وأرض الفرص والتوقعات والأحلام! بدا السيد’أوباما’ وعقيلته السمراء، الهيفاء الجميلة فوق المنصة بعد إلقائه كلمة النصر التقليدية، كنيزكين جاءا من كوكب آخر ضمن مشهد أغرب من الخيال، لا يمكن تصديقه بسهولة.. ولكنها أميركا .. أرض العجائب والأحلام والمفارقات، حيث تعيش صفوة من أغنى أغنياء العالم في بحبوبة، مصابة بتخمة تتسبب تباعا في موجات من الفقاعات المالية، لا تلبث إلا وتنتشر كالنار في الهشيم في مختلف أرجاء المعمورة.. هذا مقابل أفقر الفقراء، الذين يمدون أياديهم المرتجفة -يوميا- في صناديق القمامة عسى أن يتزودوا بما قد يسد رمقهم!
لعل المثاليين ‘الفيثاغورثيين’، الملتهين بنظرية ‘النسق الرياضي’.. يتشدقون الآن فرحا وهم يرون صدقية ما يروجون له فيما يتعلق بالعلاقة العجيبة / الغيبية بين الأحداث التاريخية وتناسق الأرقام الحسابية.. فلابد أن يكون هناك سببا ما ، ليكون أول رئيس أميركي غير أبيض يحمل رقم الـ 44 ! على أية حال.. ليس هنا مجال الخوض في هذه الفرضية الفلسفية /العلمية (مقولة الصدفة والضرورة) الأكثر إشكالية وتعقيدا وغموضا من بين المقولات الرديفة الأخرى. ولكن الإشارة جاءت من باب غرائبية هذه الصدفة في المشهد الانتخابي الأميركي! فالحدث تاريخي بكل معنى الكلمة.. لقد كسرت أكثر المحرمات قدسية وقربا إلى قلب’العنصري’ الغربي الأبيض تجاه أخيه الإنسان، العنصر الملون القادم من الجنوب والشرق.. تلاشى الخوف وأصبح بمقدور الإنسان الأسود، الذي كان عبدا لسيده في الماضي ، أن ينتشي بما في طاقته من الزهو والفخر بهذا الانتصار الرمزي والمعنوي، مشاركا رفاقه المهمشين البيض والصفر والدكن ، دون أن يفيدهم هذا الحبور كثيرا على الصعيد المادي، من مغبة وضعهم المعيشي البائس، الأقل ضمانا وسلاما من أشقائهم الأوروبيين الغربيين بالرغم من جهدهم الإنتاجي والعملي المضاعف والمضني وادرارهم لمردود أكثر للقيمة الزائدة ، التي تذهب لخزينة القطط السمان
ارتأت أميركا – نخبا وشعبا- أن تغير لون رئيسها عبر ديمقراطيتها الأكثر بهرجة والأصخب كرنفالية، المعبرة عن المزاج الأميركي الجامح في مجتمع البذخ والاستهلاك المعاصرين. باتت هذه الانتخابات الأكثر كلفة وأحد أكثر الانتخابات حضورا وجدلا ومشاركة . فالمتنافسان لوحدهما قد صرفا مبلغا يفوق المليار دولار، عدا المصروفات الإجمالية التي كلفت المليارات، في وقت تجاوز فيه الدين العام العشرة تريليونات وعجز تجاري تجاوز أيضا التريليون الواحد. من هذه الزاوية يجب أن ننظر إلى السيرك الانتخابي الأميركي وكلمة السر/ المرور.. أضحت كلمة ‘التغيير’ هي العنوان الأبرز في هذه الحملة الانتخابية التي بدأت منذ بداية السنة وانتهت للتو.. صارت هذه الكلمة على كل لسان واستخدمت بحنكة ودهاء- قل نظيره- من قبل المتنافسين وخاصة المرشح الديمقراطي النحيل الطويل وحامل الاسم ذي الوقع السيكولوجي المدهش’ باراك أوباما’. لكن لابد من الملاحظة بإمعان أن مجيء أوباما نفسه كان النتيجة، أي أن انتصاره هو نتيجة لشعور التغيير الضروري لواقع حال، طال انتظاره في نسيج المجتمع الأميركي، الذي يرنو بالطبع، ولو في مخيلته وعقله الجمعي الباطن، لمجتمع أكثر عدلا وإنصافا وإنسانية. غير أن ‘المطبخ السياسي الرسمي’ للخبراء/الثعالب الكبار، المتسمون بقوة خارقة لتحويل الهزيمة إلى انتصار والضعف إلى قوة واستبدال الأبيض بالأسود ، قد نجح في عمله بامتياز عن طريق استثمار مشاعر وحاجة التغيير النابض في قلب المواطن الأميركي، بشكل يبدو فيه المجتمع الأميركي كما وكأنه قد تخلص إلى الأبد من العنصرية المقيتة ، متجسدا في وصول مواطن أسود لأول مرة في التاريخ الأميركي لأعلى منصب في المؤسسة الحاكمة، كدليل واضح – لا لبس فيه- على إمكانية وصول أي أميركي إلى غايته ( حسب ما قاله الرئيس القادم في إحدى خطبه الحماسية)! نعم لابد لأميركا الديناميكية من تغير ما، ولو في صورة رئيس أسود أو حتى امرأة بيضاء أو سوداء (فرصة قد تنفتح مستقبلا لكونداليزا رايس)، وإلا فإن الأمور تزيد من خطورتها إن ظلت الحال على حالها، حيث وصلت صورة أميركا الدولية إلى الحضيض في الفترة الأخيرة فلا بد من تغيير الصورة إذا.. لا بد من التخلص (التظاهر بذلك على الأقل) من شوائب الفكر العنصري المحافظ القديم والمعيق -داخليا وخارجيا- للمحافظة على الريادة الأميركية في العالم، فخبث الصفوة من الاستراتيجيين الأميركان عبارة عن تنازل في الظاهر واستمرارية في سياسة الهيمنة في الباطن.. ومن هنا جاءت ضرورة إعادة إنتاج الثقافة/السلعة الأكثر رواجا وتسويقا للمواطن الأميركي العادي المخدوع بجملة ‘المصلحة الوطنية العليا’. لابد من؛’استعادة صورة أميركا كآخر بقعة للأمل على الأرض’ (حسب ما قاله أوباما أيضا)! والشيء بالشيء يذكر.. في ظرف مئة عام لم يدخل مجلس الشيوخ إلا ثلاثة سود فقط ، ليجلسوا في مقاعد الشيوخ الوفيرة ويكونوا ضمن الصفوة. ولنا أن نتصور درجة الغبن والحسرة والألم لدى السود الأميركان الذين عانوا طويلا من المعاملة اللاإنسانية، التي لا تتغير كثيرا بالطبع الآن، ضمن نظام جوهره التمييز والاستغلال- بين ليلة وضحاها – فقط لأن خلاسي قد وصل إلى سدة الحكم في البيت الأبيض!
على أن هذه الحقائق المرة ، يجب أن لا تغفلنا عن إيجابيات، قد تكون في مصلحة دول العالم إن أعطت إدارة ‘أوباما’ على الصعيد الدولي، أولوية البحث الجدي عن علاقات من الشراكة والندية مع دول العالم من الشركاء والخصوم الكبار، خاصة روسيا من خلال ضرورة العمل المشترك لإزالة التوتر الدولي الحالي وحل بعض المشاكل المزمنة والمعلقة مثل مشكلة الشرق الأوسط (الخلاف العربي /الفلسطيني الإسرائيلي) وإيران والعراق وأفغانستان والقوقاز، بدل التفكير في استمرارية الهيمنة والعنجهية ولكن هذه المرة بقفازات ناعمة. من الممكن للإدارة الجديدة -إن شاءت- الاستفادة من الحماس والترحيب العاطفي المنقطع النظير من قبل الشارع العربي والإسلامي لفوز أوباما .. وفي هذا السياق فإن الأمر غير المفهوم أبدا هو إطلاق ‘سلطة غزة الحماسية’ 20 صاروخا إلى الجنوب الإسرائيلي في يوم فوز أوباما ! هل كانت عملية رمزية لاستقبال أو رسالة لأوباما أو عمل طائش لا طائل منه ؟! لا أحد يدري حتى الآن. تتلخص نقاط القوة والإيجابية لإدارة أوباما الجديدة على الصعيد الخارجي في توافر ظروف مواتية للبحث المشترك لإيجاد حلول ناجعة للأزمة المالية الحالية وإعادة الصدقية والصورة الحسنة لأميركا أمام العالم الخارجي . أما على الصعيد الداخلي فإن إعادة اللحمة الأميركية للمجتمع الأميركي المنقسم على نفسه سوف يأخذ الحيز الأكبر لدى الإدارة القادمة، بجانب المسائل الاجتماعية الأساسية، لعل أهمها الضمان الصحي إضافة إلى أولوية الشأن الاقتصادي، تحديدا المالي ، ضمن الأزمة المستفحلة الحالية وتأثيراتها على الطبقة الوسطى، عماد الاقتصاد الأميركي المعاصر لكن الأمر السلبي والمقلق هو ما جاء في خطاب ‘أوباما’ فيما يتعلق بالشأن الروسي، حين أشار إلى التعامل مع التحدي الروسي بحزم، أي العزم والرغبة الدفينة على استعادة الزعامة الأميركية للعالم وخاصة بعد حرب القوقاز وعدم الكف عن سياسة حصار روسيا والتمدد الأطلسي شرقا، الاستراتيجية الأكثر خطورة للعالم المعاصر. ومن هنا يبدو واضحا من أن أميركا كمؤسسة ونظام، وهو متربع على رأس القطب الواحد، لا تريد النزوح عنه. ولن تستسلم بسهولة للتسليم بالأمر الواقع من جراء الوضع الدولي الناشئ والتخلي عن الزعامة الوحيدة لعالم أحادي القطبية والقبول بالظروف المتحولة والجديدة للدخول إلى عالم متعدد الأقطاب، الأمر الذي قد يدخل العالم إلى مجابهات لا تحمد عقباها. والحقيقة أن التفاهم الأميركي الروسي المأمول في حالة توافره سيشكل حجر الزاوية للتعامل الجدي مع المشاكل العالمية وهذا لن يحدث بالطبع إلا بشرطين وهما؛ أولا: تغيير استراتيجي في السياسة الأميركية من المجابهة إلى الشراكة من الغطرسة إلى الواقعية مع روسيا والصين وغيرهما من أقطاب دول العالم خارج أوروبا. ثانيا: أن تلعب الدول الأوروبية الغربية، شركاء أميركا في ‘الناتو’، أدوارا أكثر استقلالية وأقل ذيلية.. وإلا فإن العالم سيأخذ شكلا آخر من الاستقطاب؛ حلف غربي ضد حلف شرقي .. حينئذ ستتحقق نبوءة الكاتب الإنجليزي الاستعماري’كيبلنغ’ صاحب مقولة ؛’ الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان’!
الوقت 8 نوفمبر 2008