نكتب هذه السطور بعد إغلاق أغلب صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وقبيل ساعات من إعلان النتائج الأولية للتصويت على المرشحين المتنافسين الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري جون ماكين، وسط توقعات ساحقة تعززها نتائج استطلاعات الرأي العديدة بفوز الأول في هذه الانتخابات ليكون أول مرشح أسود يصل إلى البيت الأبيض منذ أول انتخابات رئاسية في تاريخ الولايات المتحدة عام 1860، أي منذ قرابة قرن ونصف القرن.
وطوال هذه الحقبة الطويلة تناوب على حكم الولايات المتحدة الحزبان الكبيران ذاتهما أي الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، وظلت الفروقات بينهما في الشعارات والممارسة السياسية هي في الغالب الأعم شكلية وضئيلة، إنْ فيما يتعلق بقضايا السياسة الداخلية وإن فيما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية.
ومن حيث المبدأ لا يمكن فصل نُبل وأخلاقية السياسة الداخلية عن أخلاقية ونُبل السياسة الخارجية من الناحيتين الانسانية والديمقراطية الحقة.. فكل سياسة خارجية لا انسانية وغير أخلاقية هي بالضرورة صدى وامتداد لسياسة داخلية لا إنسانية وغير أخلاقية. وإن كانت اللعبة والملابسات والظروف التاريخية المتباينة تتيح أحياناً حجب هذه الحقيقة ــ المسلمة، فيظهر على خلاف القاعدة تفاوت بين أوجه السياستين الداخلية والخارجية، إلا أن الاستثناء أو النسبية في التفاوت لا يلغي القاعدة.
وهذه هي بالضبط مأساة واحدة من أعرق الديمقرطيات الغربية، فلم تكن السياسة الداخلية عادلة طوال تعاقب حكم الحزبين تجاه عشرات الملايين من الفقراء والسود والأقليات والطبقات المسحوقة، لا في توزيع الثروة ولا في حق المشاركة السياسية الحقة والمساواة في نيل كامل الحقوق المدنية، ومن ثم لا يمكن توقع سلطة هكذا هي سياستها الداخلية أن تكون سياستها الخارجية مختلفة تجاه شعوب العالم وقضاياها العادلة.
وسواء فاز الجمهوري “اليميني” جون ماكين أم فاز الديمقراطي باراك أوباما، كما هو مرجح بقوة ما لم تحدث مفاجآت اللحظات الأخيرة، فإن “التغيير” الحقيقي السياسي مهما كانت إغراءات وجاذبية هذا الشعار الفضفاض الذي يكرره المرشحون مع كل موسم بازار انتخابي لن يحدث لا في السياسة الداخلية ولا في السياسة الخارجية، ما لم يجر إدخال إصلاحات جذرية حقيقية داخل المؤسسة السياسية الأمريكية.
فالآباء المؤسسون الذين أرسوا مداميك هذه المؤسسة فصلوها على مقاس مصالح الرأسمالية الصناعية الصاعدة، وعلى حساب الملايين الذين ضحوا من أجل الاستقلال الوطني لأمريكا، ولاسيما العمال والسود. وكلا المرشحين الديمقراطي أوباما والجمهوري ماكين انما يقف خلفهما وراء ستار المسرح السياسي الأشبه بمسرح العرائس رجال الأعمال والشركات الاحتكارية الكبرى، والتنافس الحقيقي، بعيداً عن الشعارات، انما هو تنافس بين شرائح وفئات هذه الطبقة العريضة على الوصول إلى الحكم. ففي النهاية هذه الطبقة بكل شرائحها وفئاتها الصناعية والتجارية والمالية لن تتضرر ضررا جوهريا كبيرا بوصول أي منهما إلى البيت الأبيض، وفي النهاية فإن المتضرر الحقيقي هم الطبقات القابعة في وسط وأسفل الهرم الاجتماعي داخليا، أما خارجيا فهي الشعوب المتضررة من تسلط الولايات المتحدة على مقاديرها وقضاياها وفي المقدمة منها شعوبنا العربية وشعوب العالم الثالث عامة.
يكفي لنعرف ما ينخر هذه المؤسسة الديمقراطية من فساد مشروع دستوري تاريخي متقادم على حساب عشرات الملايين من الشعب الأمريكي انه يتاح لكلا المرشحين أن ينفق ما يشاء في حملته الانتخابية يضخها من وراء كل منهما أرباب البلايين من الدولارات، فهي ليست من جيب أي منهما بل من جيب حزبه الذي يقف وراءه. والحزب يصنع سياساته الحقيقية من وراء الكواليس هم أنفسهم أولئك الأرباب، ففي الوقت الذي تنفجر فيه الأزمة المالية الأخيرة ويبلغ غلاء الأسعار مداه وذرره غير المسبوقة تاريخيا وينهش الجوع بطون عشرات الملايين الفقراء من الشعب الأمريكي نفسه بلغت تكاليف الحملات الانتخابية 3،5 مليارات دولار، ووُصفت بأنها أكثر الحملات غلاء في تاريخ الولايات المتحدة.
فأي ديمقراطية أو عدالة منشودة لهدر مثل هذه الأموال على تمثيل سياسي مزيف غير حقيقي، في حين من شأن هذه المليارات اطعام بطون وحل أهم المشاكل المعيشية لأولئك الملايين المحرومة؟
ولعل من المفارقات الصارخة الساخرة ان أوباما الذي أثبت براعته في دغدغة أحلام الفقراء والسود والطبقة الوسطى هو نفسه أنفق مليار دولار من تبرعات حملته الانتخابية، متفوقاً بذلك على منافسه الجمهوري اليميني ماكين. وعلى الرغم مما قيل إن أوباما لم يعتمد على تبرعات الشركات ورجال الأعمال لحملته الانتخابية فإنه تبقى الحقيقة الصارخة، بصرف النظر عن فن سيناريو جمع الأموال ان الذي يضخها هم المليارديرية والمليونيرية، فالفقراء وذوو الدخل المحدود وأبناء الطبقة الوسطى ليس بامكانهم مجتمعين جمع مليون دولار مهما كان كرمهم فما بالك بمليار دولار؟ انها اللعبة السياسية في الديمقراطية الرأسمالية.
حتى الـ “واشنطن بوست” وصفت هذه المقامرة المالية في البازار الانتخابي الأخير بأنها نمط من المقامرات المالية أكثر من كونها سباقا انتخابيا حقا. ولن يفهم أحد هذه اللعبة الديمقراطية السمجة الحاذقة ما لم يفهم كيف تشتري الشركات الكبرى وكبار رجال الأعمال رئيساً للبلاد من خلال تبرعاتها المرئية وغير المرئية التي يمكننا القول إنها أشبه بلعبة غسل الأموال في تغطية مصادرها الحقيقية لشراء رئيس للبيت الأبيض.
ولعل أكثر من حلل وكشف عن هذه الحقيقة الكاتب السياسي تشارلس لويس الذي أسس “مركز الاستقامة السياسية” لمراقبة الفساد السياسي وأصدر هذا المركز كتابين مهمين “شراء الرئيس”، و”شراء الكونجرس” وكلا هذين الكتابين يفضح دور الشركات الكبرى في صناعة نجوم الكونجرس والبيت الأبيض وسيده.
وإذا كان تجار العبيد اضطروا بعد ثورات السود إلى عتق رقابهم، ها هم أحفادهم اليوم يشترون بأموالهم حفيداً من أحفاد السود المعتوقين ليمثل مصالحهم خلف غطاء من الشعارات المخاتلة الديماغوجية، فيما لايزال وسيظل الملايين من أبناء جلدته يرزحون تحت أوضاعهم الاجتماعية المأساوية التي لن تتغير حتى بوصول نجم أسود إلى البيت الأبيض.
وفي وضع مستديم تاريخي طويل من هذه اللعبة السياسية لا يبقى أمام ملايين الناخبين الشرفاء والفقراء ومئات الملايين من شعوب العالم من خيار سوى خيار ابتذال حسبة “أهون الشرين” وهو أوباما بالطبع، لكنه يبقى “شراً”. أما خيار “أحسن الحسنين” فسيظل حلماً مؤجلاً حتى تأزف ساعة التغيير والإصلاح الحقيقي داخل المؤسسة السياسية الأمريكية نفسها.
صحيفة اخبار الخليج
6 نوفمبر 2008