نحن من دُعاة التفريق بين السياسات الأمريكية، خاصةً في شقها الخارجي، المتصل بمنطق الهيمنة على العالم ومحاولة إخضاعه، وبين الشعب الأمريكي نفسه، الذي هو شعب عظيم، نتاج انصهار حضاري مديد. وكانت السياسة العنصرية للنخبة الحاكمة هي المُعوق الرئيس في وجه أن تأخذ هذه العملية مجراها الطبيعي حتى النهاية، فلا تعود أمريكا تكوينات اثنية نافرة، وإنما نسيج قومي واحد. من هنا أهمية النصر الساحق الذي حققه باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية، فبهذا تكون أمريكا قد انتصرت على ذاتها ولذاتها بالمعنى المزدوج للتعبير. انتصرت على ذاتها، بقهر ميراثٍ بغيض، ثقيل، من التفرقة العنصرية التي كانت تضع الأسود دائماً في مرتبة متدنية في كل شيء، فما بالنا بأن يكون أسودٌ رئيساً للبيت الأبيض، ونصر أوباما، بهذا المعنى، يعني أن المجتمع الأمريكي بلغ مرحلة من النضج التي تجعل منه يتفوق على هذا الإرث الثقيل ويتخطاه بشجاعة. وأمريكا انتصرت لذاتها، لحاجات التطور التاريخي الموضوعي الذي يجعل من السود والملونين جزءاً لا يتجزأ من نسيجها الحضاري، الإنساني والثقافي والاجتماعي. ولسنا من حملة الأوهام بأن أوباما سيُحدث المعجزات في السياسة الخارجية لبلاده، فنحن إزاء دولة مؤسسات، فيها منظومةٌ من الآليات المُعقدة في اتخاذ القرار السياسي، خاصة منه ذلك ذو الطابع الاستراتيجي، ودور الرئيس، والإدارة الأمريكية، على أهميته ليس سوى إحدى هذه الآليات. لذا مفيد التنبيه لسطحية الوهم الذي يهيمن على الكثيرين من بني جلدتنا ممن يراهنون على أن كون اسم والد اوباما هو حسين، سيُحدث انعطافةً في السياسة الأمريكية، خاصة الخارجية منها، فاوباما هو ابن أمريكا وأصبح مرشح الحزب الديمقراطي، قبل أن يفوز بالرئاسة، ليمثل سياسة حزبه ومصالح بلاده ويدافع عنها من منظور التوازنات القائمة في البلد. مع ذلك، فلا مجال للتقليل من الأهمية التاريخية لفوز أوباما. انه رد حاسم على السياسة الهوجاء لجورج بوش والمحافظين الجدد، داخلياً وخارجياً، التي قادت إلى الكثير من الكوارث، وهو إيذان بنهجٍ أكثر عقلانية للولايات المتحدة، ينسجم مع مكانتها ودورها على الصعيد الدولي، وفيه أيضاً رد اعتبار لسياسات الحماية الاجتماعية للفئات الكادحة والشرائح الوسطى، التي سحقتها سياسات الخصخصة وتغييب دور الدولة، وهي السياسات التي يجري استنساخها بغباء في بلدان العالم الأخرى. ولأن الكثيرين منا مغرمون بالنموذج الأمريكي، فلا بأس من التأمل المليء في حقيقة أن هذا المجتمع العظيم المتفوق في العلم والاقتصاد وغيرهما من حقول، يعطي مثالاً مُعبراً في تجاوز انقساماته الإثنية، فيما نحن ما نزال منهمكين في التمحيص في الاسم واللقب واسم العائلة، وإلى أي مذهب أو طائفة أو قبيلة ينتسب كل منا، لنرى مدى قرابة أو بعد الشخص منا، كي نقرر بعدها الطريقة الأنسب في التعاطي معه. ولكي نقيس بُعد الشقة بيننا وبين العصر الذي نعيش فيه، علينا التأمل في دلالة فوز اوباما، الذي أتى أبوه، وليس جده، من كينيا مهاجراً إلى أمريكا، فيتزوج هناك، ويُخلف ابناً لامعاً ذكياً، ليكبر ويصبح رئيساً لأقوى دولة في العالم، فيما لو مكث أبوه في عالمنا الإسلامي، لربما لم يكن ولده لينجو من الأمية، وألا يصبح أكثر من راعي غنم، مع إجلالنا لكل المهن.
صحيفة الايام
6 نوفمبر 2008