رحبت الأوساط والفئات والشرائح البحرينية المختلفة بالإعلان عن رؤية إستراتيجية ومستقبلية تحقق مسألة مهمة للمجتمع ألا وهو زيادة دخل الفرد في الأسرة البحرينية وتحسين معيشتها إلى جانب تطور في الهياكل الاجتماعية المختلفة، اقتصادية ومهنية وتعليمية وصحية وحياتية وثقافية،
هذا التنوع المتكامل في الرؤية بدت ملامحه العريضة وخطوطه الأساسية واضحة، ولكن التفاصيل الجزئية للرؤية هي الأصعب في تلك المسألة. وقبل البدء في التعليق والتساؤل أود أن انطلق من سؤال بدا متأخرا ومن الصعب العودة إليه ولكن نحن بحاجة إلى إجابة شافية. لماذا تعطلت ولادة الرؤية لمدة سبع سنوات؟ الم يكن بالإمكان ولادتها على مسار متواز مع التجربة النيابية أي منذ عام ٢٠٠٢؟ لكي نلمس نتائجها القصيرة الأمد اليوم “وان كانت الرؤية مصممة على أساس عقدين من الزمن” أو بعبارة أصح لخمس دورات نيابية. هل كانت الرؤية مرتبطة ولادتها بانتظار معرفة النتائج الأولية للعملية السياسية ومنعطفاتها وتقلباتها؟ أليس الحكومة هي نفسها طوال هذه المدة والمخاض نفسه والثروة نفسها والشعب نفسه “لولا مسألتين هما حالة الفوضى النسبية والتوتر والحالة الثانية ارتفاع سعر النفط” الذي مكّن الدولة من رصد ميزانيات تحقق تطورا محسوسا في الهياكل المعنية، بما فيها إمكانية التعجيل بحل ملفات متراكمة مستعجلة كمشكلة الإسكان والأجور والعمل، فهي تمس بشكل مباشر الحياة المعيشية لشرائح واسعة من السكان..
الآن لا تهم الإجابات وعلينا أن نبدأ من شهر أكتوبر عام 2008 عام الرؤية انطلاقا من مقولة أن تبدأ أفضل من أن تقف للأبد في مكانك مثلما قلنا أن الوسط الاجتماعي برمته رحب بالرؤية باختلاف ردود الأفعال بين الشعور بالحلم الممكن وبين القلق المستمر لمستقبل بات معلقاً في السقف المفتوح ولكن في عالم اليوم لا يوجد شيء غير ممكن التحقق متى ما توافرت عوامل النجاح وتوافرت معها الإرادة الفعلية لانجاز ذلك الحلم.
تذكرني القضايا الكبرى للشعوب والدول ومشاريعها الطموحة عندما تنهض دول بهممها من ركام الفقر والحروب الأهلية، بهدف الانطلاق نحو العالم لكي تبني وتحقق مكانتها في تلك الخارطة العالمية، تنهض دول بهدف أن تكون رقما مهما أياً كان حجمها السكاني ورقعتها الجغرافية، فلا نستغرب رغبة الحلم فهي من طبيعة المشاريع الكبرى. هكذا كان على لينين الشاب – زعيم دولة محاطة بتحديات كبرى – أن يضع روسيا المنهكة على نهج لم يرَ نتائجه بسبب الموت، ولكنه كان مهندس فكرتها وهي خطة “النيب” العظمى والتي جعلت من روسيا الشاسعة حتى اليوم دولة لها مكانتها، وقد نَعَت الصحفي الأمريكي الذي أجرى المقابلة معه حول طموحات الثورة الفتية وزعيمها، فلما استمع إلى تفاصيل تلك الرؤية “خطة النيب” البعيدة أطلق عليه تسمية “رجل الكرملين الحالم” ولكن ذلك الحلم على الأرض امتد إلى الفضاء.
بالرغم من الاختلاف في المكان والتاريخ والحالة، فإنني وددت أن استنبط فكرة الحلم والإرادة السياسية وكيفية استنهاض قوة العمل والإنتاج عند الشعب عندما يؤمن أن هذا الوطن ملكه وان الثروة ثروته وان الانجاز سيكون لصالحه. فهل نحن باتجاه استيقاظ واستنهاض تلك الهمة النائمة والمشاعر المرتابة والحالة التاريخية المضطربة، وإننا قادرون على إخراج شعبنا من كومة تلك الحالة التاريخية الرمادية؟ فعصب المشكلة وجوهر المحنة إن الرؤية حتى وان كانت اقتصادية فهي بحاجة لشعب ينفذها ومواطن يؤمن بها إيمانا حقيقيا وفعالا لطالما جعلته الخيار الوحيد، فنحن إزاء حالتين وظاهرتين لسيكولوجية شعبنا ومؤسساتنا ومزاجهما وقيمهما، الأولى التعود على العطاء والخمول والاتكالية والتملق والخوف، والحالة الثانية التململ وفقدان الصبر والعجالة والتشكيك وغياب التضحية البسيطة إزاء أية مشكلة تواجهه، فلو حدث أي عطل في أزمة ما وجدنا الناس تتذمر وتتفنن بالشكوى والمبالغة دون معنى، وتوجه اللوم دون دراية بل ولا تصنع وتتحمل القرار المشترك إزاء تلك الظواهر المحتملة.
ما قدمته الرؤية من خطوط لم تذهب إلى كيف نزيح تلك الحالة من فقدان الثقة بما فيها القطاع الخاص؟ وكيف نردم الهوة لكي يتعاطى الشعب / المواطنين مع الرؤية بايجابية متواصلة ومستدامة؟ ربما السنوات السبع كانت سنوات تراكم خبرة للرجل الصاعد مستقبلا (ولي العهد)، فالرؤية تبدو بكل وضوح مصاغة لجيل شاب بشكل أكثر من جيلنا، فنحن حتى عام 2030 ربما لن نكون على هذا الكوكب، لهذا جاءت هندسة تلك الرؤية لجيل ينتظر أن يحصد حصته من الثروة القادمة في وطن أكثر رخاء واسترخاء في الأمن الاجتماعي والمعيشي والحياتي. ولكن هل بإمكاننا أن نشهد في فترة حياتنا جزءاً من انجازات تلك الرؤية؟ اعتقد أن المسألة لا تحتاج إلى إجابة دقيقة وصعبة، إذا ما تركت الحالة للانسجام والتآلف بين المبادئ الثلاثة (الاستدامة – التنافسية – العدالة) وحدها كما هي رؤية الوثيقة التاريخية للمملكة.
ما تنشده الوثيقة من تعزيز مكانة البحرين دوليا مرهون بوضعنا الداخلي وبالوضع الإقليمي والعالمي، فالسماء لا تمطر ذهبا، فلكي بالفعل – كما تشير الوثيقة - أنها تسعى لرفع المستوى المعيشي للمواطنين، وبالطبع ذلك التحسين المعيشي لا ينتج إلا بتضافر جانبي العمل المثمر وإرساء قيم العمل وعدالة الأجور في مناخ اقتصادي يحقق فرص عمل وتكافؤاً بين الجميع على أساس من النزاهة والشفافية في وطن قادر على توزيع عدالته بين مواطنيه، ذلك الوطن الذي لن يتقدم أبدا في بيئة سياسية متقلبة ومشحونة بالتوتر والاضطرابات.. وطن يدخل في متاهات أحلامه ومطالبه، مما يعيق حركة العربة التاريخية لمشروع الرؤية الحالمة، فننتقل من حلم الواقع إلى واقع الحلم المفقود، فلا نمسك لا بالحلم الجميل المستهدف ولا نخرج من الواقع المضطرب، فننشد بين حركة العجلة والحصان المعاكس المعاند لهذا لا يمكن تطبيق الرؤية من جانب واحد، وإنما يقتضي تفهم الجانبين لكل متطلبات المرحلة وخططها بكل مرونة، بحيث يبدي الطرفان مقدارا من التفاهم والتعاون بل وحتى التنازل بين الطرفين عندما تقتضي المسألة تنازلا أهم لمصلحة الوطن العليا. وتمحورت تلك الأحلام والرؤية في ثلاث حلقات أو مرتكزات أساسية، فلا يمكن انجازها منفردة حلقة دون سواها، فالعملية الإصلاحية متكاملة في تلك الرؤية الشمولية الطموحة، في عالم متقلب من حولنا. فما هي تلك الحلقات الثلاث وكيف نقرأ جوانبها بمنظار مختلف .
الأيام 4 نوفمبر 2008