المنشور

تحليق النقود بعيداً عن الإنتاج


كان انفصال النقود عن الإنتاج قد بدأ منذ فجر التاريخ المكتوب، حين أخذت معادن الذهب والفضة والنقود دورها كمعادل للبضائع، وجاءت النقود الورقية مع الرأسمالية ليزداد الانفصال بين الإنتاج والنقد، وصحيح ان هذا الانفصال لعب دوراً كبيراً في تطوير عمليات الإنتاج، لكن قفزات النقود كانت لها مخاطرها الجسيمة كذلك.
بل لقد أخذت القوى المالية دور السيطرة على العالم الاقتصادي، وأُضيف إلى الورق النقدي والعملات جملة من الأوراق غير ذات قيمة، وصارت رموزاً للأشياء وللديون وللأصول المختلفة كالشيكات والصكوك والحوالات.


ونتيجة لسيطرة الولايات المتحدة على الرأسمالية العالمية، وتحول الدولار إلى عملة كونية، فقد انطلقت بمادة الورق الرمزية تلك إلى آفاق بعيدة.
في سنة 1970 قام ريتشارد نيكسون رئيس أمريكا وقتذاك بإلغاء العلاقة بين الدولار وقاعدة الذهب، فحلق الدولار في السماء عملة ورقية بلا قواعد مادية تشده إلى الأرض، وصار بإمكان الحكومة الأمريكية طبع ما تشاء من هذه الدولارات الورقية، وأقامت قوتها على متانة الاقتصاد الأمريكي.
وفي إحدى السنوات طالب رئيس إحدى الدول الأوروبية بمعرفة ما تضعهُ الولاياتُ المتحدة من ذهب كرصيد وغطاء لتلك العملة فرفضتْ الإجابة.
كشفت أزمة الرهون العقارية كيف تم التلاعب بأصول العقارات الرمزية وتحويلها إلى أداة نقدية جديدة يتم عبرها التسليف والشراء، فتتراكم العلاقات الوهمية بين المستثمرين بعضهم ببعض وبين عمليات جديدة مالية يقومون بها على تلك الأصول المتضخمة التي تتضاءل قيمتها كلما اتسعت علاقاتها.
وقد قام مستثمرون آخرون من أنحاء العالم بالمساهمة في عملية المضاربة تلك، واستغلالها من أجل مزيد من الأرباح.
بَعُدت عملية إنتاج البيوت تلك عن عمليات الإنتاج الحقيقية، فهي ليست سوى بناء عقارات لا تضيف شيئاً إلى الإنتاج المادي، فهي استهلاكٌ بذخي، لكنها بدلاً من ذلك تحولت إلى وسيلةِ استثمارٍ كبرى، فرُهن ما مجموعهُ مليونا منزل.


تحليق النقود وورقيتها المتصاعدة وظهور حشود من الأوراق الرمزية الناتجة عنها التي لها تحليقها الخاص كذلك، ضاعفتها عملياتُ التداخل بين الدول وتقاربها عبر أشكال العولمة كافة، فراحت العمليات المالية المحلقة تشمل الكرة الأرضية كلها، عبر أجهزة انفصلت كليا عن الإنتاج وأشيائه مثل الإنترنت والفاكس والبرقيات والبث الفضائي وقامت كلها بعمليات اقتصادية واسعة وأصبح الإعلان محركاً لاقتصاد بذخي عالمي يتوجه نحو المجهول.
في بالونة العقارات المنفجرة بدا أن العالم كله يغذي طبقة صغيرة مرفهة في الولايات المتحدة، يضخُ لها النقود من كل صوب، من أجل أن تبني فللاً وبيوتاً ولأناس تزداد ديونهم، ثم يفلسون، ويفلسون معهم شبكة كبيرة من المتعاملين.
كانت هذه فقاعة التبعية الواسعة وقد انفجرت بعد أربعين سنة من انتهاء الحرب العالمية الثانية التي صنعتْ العالمَ الرأسمالي الغربي المتحد.
الدولار الورقي المسيطر، وغياب ضمانات الذهب والأصول المادية، وتحريك الاقتصاد العالمي بشكل هائل في تلك الحقبة، وانتصار الرأسمالية العالمية، وانضمام فرقاء جدد إليها، كلها نتاج تلك الحقبة.
وقد دمرت السياسة الأمريكية ما كان انتصارا أمريكيا اقتصاديا، عبر هذه الحروب والمصروفات الفلكية حيث تبلغ الكلفة الشهرية للحرب في افغانستان 200 مليون دولار، وهناك أصول تبلغ عدة تريليونات من الدولارات مفلسة.
كل العالم الاقتصادي الحر بذلك الشكل المطلق انتهى، وعبر تدخل الدول انتهت عمليا الليبرالية الجديدة التي أصرت على حرية كاملة للمشروع الخاص بشكل ايديولوجي مضاد للاشتراكية.


جرى التحليق بعيداً عن الإنتاج، وتحولت قارات إلى مصدر تام للمواد الخام وشبه المصنعة وللقروض أو لتصدير رأس مال نقدي متضخم في بلدانها، في حين أثبتت الدول التي نمت العمليات المالية جنباً إلى جنب مع الإنتاج قوة اقتصادها، وتملكت فوائض نقدية كبيرة كالصين.
وهذا أيضاً يضع علامات استفهام على قيادة أمريكا الاقتصادية حيث يهتز الدولار، وتتصاعد عملات أخرى، وكذلك على قيادتها السياسية وضرورة وجود قيادة جماعية للعالم، وأنه من الضروري أن يتوجه العالم إلى نظام مركب من الاقتصاد الرأسمالي الحر والاقتصاد الاشتراكي.
إن الدول التي وازنت بين الاقتصاد الخاص ودور الدولة، وجعلت الإنتاج وتطوير الأشياء واكتشاف المواد وتصنيعها هو بوصلة الاقتصاد، وألغت السياسة الحربية ومصروفات الجيش الهائلة، حققت تطوراً كبيراً.


وهي ليست دولة بل جملة من الدول ذات البنى الاقتصادية القوية. إن التطرف في الحرية الاقتصادية أو التطرف في هيمنة الدول له نتائج وخيمة، فلابد من جدلية التركيب على المستوى الوطني في كل بلد وعلى مستوى العالم عبر تطوير دور الأمم المتحدة.
لكن لن يتدهور الاقتصاد الأمريكي كليا، بل سيتعافى ويتطور ثانية عبر إجرائه عمليات جراحية كبيرة، وبدخول أجهزة الحكم المعبرة عن الجمهور، دور المراقبة للعمليات الاقتصادية وإعادة وجودها على الأرض وفي العمليات الاقتصادية الإنتاجية الحيوية للناس.
إن الرأسمالية الاحتكارية المندفعة في جنون الأرباح تمثل خطراً على العمليات الرأسمالية المختلفة في الاقتصاد، وهي تقود إلى الابتعاد عن الإمكانيات الحقيقية الإنتاجية والقيام بمغامرات تشابه المغامرات العسكرية، وتلعب الأزماتُ دورَ الفرامل من أجل المشي على الأرض الموضوعية، وإعادة النمو المعتدل وإزالة الترهلات.