هل يقدَّر لقضايا الملف النووي الإيراني، والتورط الأطلسي في أفغانستان، والتورط الأمريكي في العراق، والتوتر بين روسيا والغرب، وملف النزاع العربي الإسرائيلي، أن تبقى محتفظةً بصدارتها في سلم أولويات اهتمامات الأسرة الدولية ومؤسساتها الناظمة؟.
سؤال أصبح يطرح نفسه في ظل الصدمة الهائلة التي أحدثها الإعصار المالي الذي ضرب الكرة الأرضية من أقصى غربها إلى أقصى شرقها وأودى بحياة الكثير من الشركات والمؤسسات الكبرى الفاعلة في الاقتصاد الدولي.
بطبيعة الحال لن يتوقف رجال السياسة وصناع قراراتها من وزارات الخارجية إلى المنظمات الدولية المتخصصة إلى كبار المستشارين السياسيين وكافة الأوساط الوطنية والدولية المنخرطة في العمل والأنشطة السياسية – لن يتوقفوا جميعاً عن الاضطلاع بأدوارهم المعتادة فقط لأن العالم تعرض لزلزال اقتصادي لا أحد يستطيع حتى الآن التكهن بما ستؤول إليه تداعياته على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية.
ولكن هؤلاء جميعاً لن يستطيعوا التغافل عن الحقائق الجديدة التي أفرزتها الصدمة المفاجئة لأزمة الانهيار العظيم للبورصات والنظام المصرفي الغربي والعالمي، والتي سوف تستحوذ على القسم الأعظم من الجهود الوطنية المحلية (لكل دولة على حدة) والجهود الدولية الرامية إعادة بناء وترميم ما هدّمته أعاصير الأزمة، خصوصاً من حيث تأثيرها على جدول الأولويات متمثلاً في اتجاه تركيز الاهتمامات على معالجة آثار وذيول الأزمة على الصعيدين الوطني والدولي.
ولسوف تكثر اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات والفعاليات الإقليمية والدولية التي ستكرَّس لمناقشة كافة جوانب الأزمة وإمكانيات وفرص تجاوز تداعياتها وانعكاساتها بجهود عالمية مشتركة وحلول توفيقية تستوعب مصالح كافة أعضاء الأسرة الدولية لاسيما مصالح الكبار ذوي السطوة والنفوذ والتأثير في صناعة القرار الدولي.
وبمعنى من المعاني فإن هذه الأزمة وتداعياتها سوف تلقي بظلالها على الأجندات السياسية العالمية الرئيسية التي كانت إلى ما قبل اندلاع الأزمة تشكل محور الاهتمام العالمي، لاسيما مراكز صناعة القرار الدولي في الولايات المتحدة وأوروبا وبعض عواصم الشرق الصاعدة، إلى جانب روسيا بطبيعة الحال التي لم تنجُ من انعكاسات الأزمة على اقتصادها الذي راح يحلق عالياً بمعدلات نمو لافتة تراوح حول 6-8٪ واحتياطيات نقدية وذهبية متزايدة لامست سقف الـ 600 مليار دولار قبل أن تداهمها أزمة الأسواق المالية وقبلها الحرب الجورجية وتقضم منها.
بالمقابل لابد من التسليم بحقيقة أن العلاقات الدولية ذات الصلة بالمصالح الجيوسياسية، تشكل مجالاً حيوياً للغرب لا يمكن لطبقته السياسية الحاكمة التي ‘تتوارث’ الحكم وفقاً لعملية ديمقراطية تداولية محسوبة، أن تفرط فيه وهي التي تملك كل مقومات الهيمنة والسيطرة على مقاديره واتجاهاته العامة.
فهي وإن تعرضت لبعض الأعطاب الاقتصادية الخطيرة التي لابد أن تصيبها ببعض الوهن وفقدان بعض ‘الرشاقة في الحركة’ خصوصاً على الصعيد الخارجي، إلا أن هذه الأعطاب لم تنل بصورة مباشرة من أحد أهم مكامن قوتها وجبروتها، وهي هنا القوة العسكرية التي تشكل القاعدة المتينة والراسخة ‘لقطاعها’ السياسي وأدواته وآليات عمله المختلفة ومنها الآلية الدبلوماسية، الناعمة ‘والخشنة’، سواء على صعيد القدرات الفردية القطرية أو على الصعيد فوق القومي (القوة الضاربة لحلف شمال الأطلسي ‘الناتو’ تحديداً).
وبما أن هذا المصدر الحيوي من مصادر قوة وطغيان نفوذ المنظومة الغربية في النظام العالمي، يعتبر الميزة النسبية (Competitive edge) الوحيدة التي لازالت تتفرد بها، فإن المتوقع أن تواصل استثمارها ربما بحيوية واندفاع أكبر منعاً لتآكل هذا المصدر بدوره.
ثم لا ننس أن الحاضرة الأولى في العالم لتصنيع وإخراج القرار الدولي هي على موعد مع مَقْدَمْ رئيس جديد سوف يتبوأ موقعه الرئاسي في البيت الأبيض في شهر يناير من العام المقبل، وإنه لابد وأن يثبت نجاعته في مجال العلاقات الدولية الذي يشكل مجالاً حيوياً ومفصلياً للمصالح القومية الأمريكية، خصوصاً لجهة إصلاح الأعطاب والأضرار التي خلفتها ثمان سنوات من حكم ‘المغامرين الجدد’ على البلاد الأمريكية وعلى سمعتها الدولية التي ذهبت ضحية لسياساتهم.
والأمر سيان سواء فاز المرشح الديمقراطي باراك أوباما الذي يقع الآن تحت ضغط ‘الإرهاب الاستلابي’ ، وهو الأسلوب الذي اهتدى إليه الجمهوريون لمعالجة الفجوة في استطلاع الرأي التي تميل كفتها لصالح المرشح الديمقراطي، ويتمثل في إرهاب الأمريكيين وتخويفهم من مَقْدَم أوباما ذي الأصول الأفريقية وربما الإسلامية والضرب على الوتر العنصري .. أو فاز المرشح الجمهوري جون ماكين، فإن كليهما سوف يواصل الاطلاع بدورها الأبوي القيادي الذي اختصت نفسها به من دون أن يكون للعالم رأي فيه بقدر ما كان الأمر تسليماً لواقع أملته حقائق مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي دشنت الصعود التاريخي للولايات المتحدة وتفوقها الكاسح في الميدانين الاقتصادي والعسكري.
الأدوار ستتغير، هذا مما لاشك فيه نظراً لتغير المعطيات. فموقع الزعامة الأحادية الأمريكية قد أصيب إصابة بالغة، وما لم يتم إصلاح وتدارك الموقف والأعطاب التي أصابت البلاد – وهذا سوف يستغرق وقتاً ليس بالقصير – فإن حالة عالمية جديدة سوف تفرز نفسها استناداً إلى ميزان القوى المستجد الذي أنتجته الأزمة.
ولكننا لا نشك إطلاقاً في استمرار دفق الحراك السياسي الأمريكي على الصعيد الدولي دفاعاً غريزياً (مصلحياً وإيديولوجياً ونمط حياة) عن عرش زعامتها المهدد بالانتكاس، بما يشمل حتى الملفات الأكثر سخونة التي لم تزل واشنطن تضعها في أعلى سلم أولوياتها.
الوطن نوفمبر 2008