كان الوعي العربي في بعض الدول العربية المركزية نتاج حراك الأرياف، وحراك البوادي والأرياف كان دائماً المغذي سلباً وإيجاباً لحياةِ المدن العربية التي هي مركز للحكم أساساً وأسواق عرضية.
وقد انقطعت المدنُ عن الإنتاج التحديثي في نهاية العقود الأولى من القرن العشرين، بعد تجذر الهيمنة الاستعمارية، ونشوء الدول – الإقطاعيات الحديثة. وهو أمرٌ قطعَ التداولَ العربي الواسع العميق، وركز الدولَ في العلاقة مع المتروبول.
وبسبب ذلك أخذت الأريافُ تضخُ موجاتِها الاجتماعية السياسية، في حين كانت الصحارى قد تجمدت وهي سوف تضخ زيتها وغبارها في مرحلة اكتشاف النفط وإنتاجه.
وهناك فرقٌ غريبٌ ومعقد بين حضور طه حسين للقاهرة وحضور البنا، فالأول يتوجه لمشروع (نهضوي) تحديثي، والثاني يطرح العودة للماضي.
وبين تراجع فكر طه حسين التنويري والديمقراطي وصعود فكر البنا، تقع لحظتان سياسيتان مهمتان، عجز الوفد عن التحول كحزبٍ للبرجوازية الصناعية، وظهور الدولة العسكرية ككيانٍ سياسي شمولي التهم العلمانيين والدينيين معاً، ولكنه أضعف العلمانيين أكثر، في حين كانت موجات التدفق الريفي تواصل التهام أحياء القاهرة ومقابرها.
وهو امر راح يتكرر عربياً بأشكال مختلفة.
ولكن الأمواج الريفية سوف تزداد توغلاً في المدن العربية، مع تفاقم أزمة الزراعة والمواد الخام، وعجز المدن عن التحول للحداثة.
وهذا سوف يؤدي إلى الاستعانة بالدين كوعي مطلق قادر على فعل المعجزات التي عجز عنها من سبقوهم، ومن هنا تأتي القراءة الغيبية الإعجازية عند سيد قطب للقرآن، فأمام المد الغربي المتصاعد لاستغلال المسلمين وعجز بناهم وأنظمتهم الجديدة عن فعل توحيدي ديمقراطي (نهضوي) شامخ وذي كبرياء، يتم اللجوء إلى ضخ المعرفة الحدسية في الثقافة السياسية، وبأنهُ من الممكن حدوث معجزة. فهم يقرأون الإسلام كإعجاز لغوي وليس كموضوعية اجتماعية.
وكان انتظار المعجزات هو أحد أهم أشكال الوعي الريفي في طرحه، فهناك معجزات تجري: سقوط الاتحاد السوفيتي، ومجيء الثورة الإيرانية، وصمود حزب الله، وأزمات الرأسمالية الكثيرة الرهيبة وغيرها من الظاهرات (الإلهية الكبرى) المؤثرة التي لا يمكن تفسيرها إلا باقتراب تطبيق الإسلام وانتصاره الكامل في مشارق الأرض ومغاربها.
وهذا ما تلح عليه التفاسير(العلموية) التي تخالفُ مناهجَ رجال الدين شكلاً لكنها تتوافق معها مضموناً.
وفي البداية لابد من رؤية كيفية تدهور الوعي العلمي في الجامعات العربية، عبر منع دراسة المدارس الكبرى الفكرية كالماركسية ونظرية التطور والبنيوية الوظيفية وغيرها، والنشر بكثافة للمدارس التغريبية الشكلانية وهي التي توافق هوى الفئة الوسطى التي تجلبُ البضاعة الغربية من دون أن تقوم بحفريات في الأنظمة التقليدية الشمولية الدينية الراهنة وتكشف أزماتها، وهو الأمر الذي يسبب تصاعد مواقفها النقدية لو حدث.
ولهذا فإن الريفي الجامعي والمستورد للنظريات الغربية يؤكد دائماً ويقرأ في ضوء النظريات (العلمية) سواء للشعر أم للقصة أم للرواية أم للمقال أم للتراث الخ، وسيكون المؤَلـَف حاشداً بالترقيم والاستشهادات، وسوف يقرأ ظاهرات في هذه الكتب معزولة، جانبية، تم تكسير وجوهها الدلالية النقدية والنضالية، وحشرها في أنابيب مختبرية، ويقوم بإدخال الأحكام الذاتية التي ستبدو شديدة الموضوعية في مثل هذه الدراسات (المحكمة).
ولو تتبعنا نماذج من هذه الدراسات سنجد المتواري هو إسقاط الأبعاد الطائفية والأيديولوجية والذاتية في هذه الأعمال، وستكون خاضعة لعلاقات المؤلف وهواه الشخصي، فيرفع من يرفع ويُسقط من يسقط، أو يقوم بتناول كاتب ثانوي ويترك المؤلفين الرئيسيين، ابتعاداً عن كشف صراعات الواقع الموضوعية.
مثلما أن الحركة الحقوقية تتجاهل اضطهاد الحركات الدينية للناس وتركز في الحكومات، وليس أن تقوم بجرد موضوعي للطرفين بنزاهة.
مثل هاتين الموضوعية والنزاهة هما عمليات حفر فكرية لا يستطيع الريفي المحافظ، الرمز الأبرز للمرحلة، أن يقوم بها، لأنه لا يمثل طبقة أو نظاماً، هو يمثل حالة ضبابية دفاعية لنمط إنتاج حِرفي دمرهُ النظامُ الرأسمالي الحديث.
وهو غير قادر على تقديم البديل لجمهوره وهو المصنع، الذي يمثل اختراقا ماديا وعلميا واقتصاديا لوضعه كبرجوازي صغير ولوضع المرحلة، فيقدمُ البنكَ والوكالة والدكان، مفروشة بسجاجيد(إسلامية) لكنها حصالات للغرب.
ولهذا فإنه يلجأ إلى تكذيب التطور الحديث، وهذا يتمظهر لدى رجل الدين بكلمات السقوط، (سقوط الشيوعية)، و(سقوط الرأسمالية)، و(سقوط العلوم الكافرة وعودة الإيمان) الخ ولكن الذي يسقط فعلاً هو ذاتهُ العتيقة غير القادرة على الوقوف في العصر.
ويتمظهر لدى مثقفه العصري المتخرج في جامعات الغرب والشرق بظهور ما بعد الحداثة، وما إلى ذلك، وتتحول سيرورة الغرب التحديثي إلى فسيفساء مفتتة لا تتكشف علميا.
ومن هنا يقوم بتفسير ظواهر الشرق بفذاذة عجيبة، فيسمي قهر الحكومات والحركات الدينية للشعوب أنه عودة عميقة لأصالة الذات، ولكن حتى رجله الديني يصرخ بانتشار الفساد في النظم (الإلهية) ولكنه لا يعترف نظراً لقصوره الديني والموضوعي بأن زيادة القمع في الدول الدينية هرّب الناس من الدين ووجههم بقوة نحو المفاسد، في حين ان السويد التي يجعلها على رأس الدول الفاسدة يتوجه فيها الناس للفضيلة أكثر.
إن توحد رجل الدين الغارق في النصوص الشكلانية المحافظة هو ذاته توحد الريفي الجامعي بالنظريات الشكلانية المستوردة المفتتة، المأخوذة بذاتية وانتقائية عجائبية.
كما أن الريفيين؛ رجلَ الدين والجامعي، يمثلان مجتمعاً قديماً في حالة انهيار، لكنه يتبدى لهما كانتصار دولة الإسلام القادمة العظيمة، وليس لكون الريف في حالة انهيار اقتصادي، وأنه بحاجة إلى حلول اقتصادية وثقافية عميقة، كإعادة الأرض الزراعية وتوزيعها على الفقراء ومكننة الزراعة وإعادة تشكيل النساء باتجاه الحرية والأسرة الصغيرة.
إن الحديث عن عودة دولة الإسلام السحرية هذه ليس هو منطق خريج اكسفورد، لكنه يقول إن الجمهور يستبطن اللاوعي العميق للحياة وان في مكنوناته وعباداته رموزا استعادية للحضارة وغير هذا من الشعوذة “المصوغة” ببعض مصطلحات مدارس معينة تتجاهل أزمات الجمهور وعذاباته الذي هو بأشد الحاجة إلى الصناعة والعلوم والعمل.
صحيفة اخبار الخليج
5 اكتوبر 2008