من وحي ما أثير في شأن محاولة رشوة وزير البلديات، وعلى خلفية ذلك الكلام الغريب المنسوب لمحامي المتهم في هذه القضية في محاولة نفيه للقصد الجنائي للرشوة بتغيير مسماها بقوله: إن موكله لم يترك سوى 14500 دينار وعلبتي حلوى رخيصتين بحسن نية كهدية للوزير !!، من وحي وعلى خلفية ذلك استميحكم هذه المرة في أن استهل هذا الموضوع بنكات.. ربما لأننا مغلوبون على أمرنا نبتلع المر ونختزن الحزن ونرضى بالمقسوم، ونجد أنه من المناسب أحياناً أن نلوذ بالنكات مكتفين عبرها بممارسة أضعف الأيمان، ربما لأن صورة الواقع على كاريكاتوريتها مسكونة بقدر من المفارقات ذات الوزن الثقيل التي أحسب أنها تجعلنا لا نعرف ما اذا كنا نتقدم أو نتأخر، ولا نعرف ما اذا كنا “نتشـاءم” أم “نتساءل” بعد أن عبرت الرشوة عن أشكالها ووجوهها ومفاعليها ومدى تغلغلها في مفاصل الحياة العامة، وتلفعت بأكثر من عنوان قد تبدأ بـ “هدية من نوع تلك الهدية ” مروراً بـ ” إكرامية، أو عطية، أو حلاوة، أو عمولة أو شطارة” أو ” دهان سير” أو ” معلوم”، وقد تنتهي بكلمات من نــوع ” نفّع واستنفـــع” أو ” خذ هذا للأولاد”، أو” تفتيح المخ” وما شابه، مما لا يمكن اعتباره إلا عناوين للرشوة مهما كانت تصنيفاتها رمزية أو فاقعة، مادية أو عينية.
تقول نكتة: إن بعض المرتشين يرفضون قبض مبلغ الرشوة مباشرة، وأنهم تعودوا أن يطلبوا من الراشين أن يضعوا الرشوة على الأرض ليستطيعوا تحت أي ظرف الحلف بأنهم لم يقبضوا شيئاً، وإنما وجدوا المال على الطريق والتقطوه دون أن يمت ذلك إلى الإثم بصلة..!!.
وفيما بين هذه النكتة وتلك التي تقول إن مقاولاً كبيراً ذهب إلى موظف صغير عارضاً عليه رشوة، فصرخ فيه الموظف: أعوذ بالله، إنني متوضىء يا رجل، أمامك درج المكتب مفتوح ألا تراه، وبين النكتة التي تخبرنا أن رجل أعمال أراد أن يقدم رشوة إلى موظف حكومي كبير ليحصل على تسهيل معين، وعندما دخل إلى مكتب الموظف غافله وألقى تحت الكرسي الذي يجلس عليه الموظف مبلغ 50 ألف دينار، ثم قال له لقد سقط منك على الأرض مبلغ 50 ألف دينار، فرد عليه الموظف الحكومي الكبير قائلاً: لم يسقط منى 50 ألف دينار ولكن سقط مني 100 ألف دينار، في إشارة إلى أنه يريد رفع المبلغ إلى الضعف، بالإضافة إلى تلك النكتة التي تقول إن مواطناً أثناء انتخابات برلمانية في دولة عربية لم يجد اسمه في كشوف التصويت بالصندوق الذي يشرف عليه القاضي فاتجه إليه قائلاً: هل ممكن أن أضع أصبعي في الحبر، لأنني أخذت مبلغاً من أحد المرشحين، ولو خرجت من غير العلامة على أصبعي سأضطر لترجيع المبلغ..!!.
وتتلاحق أمام أعيننا مشاهد كثيرة مفزعة من وباء الرشوة بما يعد نذيراً بأن المجتمع بأسره أصبح في خطر، مثل ذلك المشهد الذي يعاني منه بلد عربي أو أكثر، ذكرت تقارير أن المسؤولين فيه يصلون إلى مناصبهم عن طريق رشوة المسؤولين الأعلى مركزاً، وحين يتولون المسؤولية فإن أول ما يبدأون به هو ابتزاز الناس العاديين من لا سند لهم ولا ظهير لكي يحصلوا على منافع ومبالغ أكبر بكثير من التي دفعوها، يتم ذلك بكثير من السرعة والعجلة قبل أن يأتي أشخاص آخرون ويزيحونهم من مناصبهم بعد أن دفعوا مبالغ أكبر إلى من يعينون ويعزلون..!
فيما بين تلك النكت قاسم مشترك تمثله تلك المأساة الحقيقية للرشوة التي أخذت أبعاداً وصوراً وأشكالاً مختلفة ومذهلة، وشهدت تطوراً هائلاً هذه الأيام، ربما لتواكب المتغيرات على الساحة الخارجية لدرجة أنه بات هناك مؤشر دولي تصدره منظمة الشفافية الدولية عنوانه ” مؤشر دافعي الرشاوي “.. !! ، كما بات هناك تصنيف لأنواع المرتشين ومستويات الرشوة، وأصبح بديهياً الحديث عن رشاو صغرى لعل منها محاولة رشوة وزير البلديات، ورشاو كبرى لعل منها ما عرف بقضية الرشوة في ” ألبا ” التي كان قد كشف عنها في فبراير الماضي، وبالمناسبة هذه القضية أضافت إلى معلوماتنا بأن سوق الرشاوي بات يشهد رشاوي قيمتها عدة مليارات من الدولارات، مع ملاحظة هامشية أخرى أن لا أحد يعلم حتى الآن عن مجريات هذه القضية في المحاكم الأمريكية وما إذا كانت لا تزال منظورة لدى القضاء الأمريكي.. !
نعلم أن الرشوة في بلادنا كما في بلدان أخرى أصبحت واقعاً يومياً في كثير من أجهزة ومؤسسات الدولة، وأصبح الاعتراف أو عدم الاعتراف بها الواقع من باب تحصيل الحاصل، حيث صار بوسع المرء معرفة ملامح وتضاريس خريطة الرشوة التي هي في أبسط وأوجز تعريف ” هي ما يعطي لإبطال حق أو لإحقاق باطل “، وبالتالي فهي ابنة شرعية للفساد الذي رغم أنه يهز وجداننا ويؤرقنا بقاؤه، إلا أننا لم نفعل شيئاً جدياً وحاسماً على طريق مواجهته رغم كل اليافطات والشعارات، ومادامت الرؤية الاقتصادية للبحرين 2030 التي تبنتها الدولة مؤخراً جاء ضمن محاورها استئصال الفساد والسعي للتطبيق العادل للقوانين، فإن من الواجب أن لا تبقى هناك أي ذريعة تعطل مواجهة الفساد بشكل أكثر رسوخاً وثباتاً ووضوحاً.. !!
نعود إلى قضية محاولة رشوة وزير البلديات المثار حولها لغط كثير، فبصرف النظر عن تفاصيل ووقائع وملابسات هذه القضية فإننا نرجو ألا يطول انتظارنا لنتائج التحقيقات فيها، وصدور الحكم بشأنها، لاسيما وأن هذه القضية تثير علامات استفهام وتعجب كثيرة، غير أنه لا يفوتنا ونحن نقلب على الأقل ما هو متداول ومنشور حتى الآن في خصوص هذه القضية أن نسجل أكثر من ملاحظة:
الملاحظة الأولى تتصل بما كشفت عنه القضية من مفاجآت وصفت بأنها من العيار الثقيل أبرزها أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يحاول فيها الراشي أو الشركة المتورطة أتباع هذا الأسلوب.. !! ونشر أن مسؤولاً كبيراً قبِل رشوة قدمت إليه وتصل إلى مئات الآلاف من الدنانير، وهو كلام خطير موثق ومنشور ولم يعقب عليه مسؤول واحد توضيحاً أو تكذيباً، ويبدو أنه سيكون من المتعذر نفي ذلك خاصة إذا أمعنا فيما أورده تقرير ديوان تقرير الرقابة المالية فيما يخص البلديات.. !!
أما الملاحظة الثانية فهي أن الشركة المتورطة هي نفسها التي فازت بعطاء النظافة في المحافظتين الشمالية والوسطى، وبافتراض صحة ما قيل عن اتجاه لفسخ العقد المبرم مع الشركة، إلا أن ذلك لا يعفي من السؤال تلو السؤال، وكل سؤال لا يخلو من وجاهة ومشروعية حول دور مجلس المناقصات ودور الجهات الرقابية، ودور كبار المسؤولين الذين تقلدوا على مدى السنوات الماضية، وحتى الذين لازالوا يمسكون بزمام المسؤوليات في ” البلديات ” وخاصة ذات العلاقة بالمشتريات والمناقصات، وعلينا أن نتنبه إلى أن التصريح الذي أطلقه رئيس بلدي الشمالية قد كشف عن مفاجأة هي أيضاً من العيار الثقيل بقوله: إن شركة النظافة التي أرسيت عليها المناقصة لم تكن موجودة ضمن القائمة على الإطلاق، وأقحمت فجأة دون أن يعلم أحد عنها شيئاً، بل حتى عن اسمها، هذا التصريح يستدعي اسئلة ملحة ومحرجة، عن عدد الرشاوى والمناقصات التي مررت ومبالغها والمستفيدين منها، ولماذا لا يكون هناك صدى لهذا الأمر، والسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هنا لماذا لا تتحرك النيابة لفتح تحقيق للوقوف على صحة تلك الاتهامات ووضع الأمور في نصابها الصحيح..!!.
الملاحظة الثالثة: فهي تتصل بما أورده تقرير ديوان الرقابة المالية الأخير حيث يلفت الانتباه إلى عدم التزام شؤون البلديات ومعظم البلديات بالمحافظات بقانون تنظيم المناقصات والمشتريات الحكومية، واستمرار تجزئة كثير من المشتريات لتفادي طرحها في مناقصات، كما ينبه التقرير إلى وجود تعاملات مملوكة من قبل أشخاص لهم قرابة ببعض المسؤولين بالوزارة دون إفصاح هؤلاء المسؤولين بهذه العلاقة لكي لا يتم استبعادهم عن المعاملات المتعلقة بالجهات المعنية، الأمر الذي يتعارض مع مبادىء الإفصاح ويخلق تأثيراً للمصالح الشخصية على المصلحة العامة، الأمر الذي يجعل موضوع الرشوة غيض من فيض.
يا ترى ما هي حقيقة وخلفية رشوة وزير البلديات؟ وكم محاولة رشوة نجحت في البلديات، وفي غيرها من الوزارات والأجهزة الرسمية؟ والأهم ماذا فعلنا لكي نوقف الدوران في حلقة مفرغة، ونوقف الهدر في المال العام ونضع حداً للفساد ؟..
اقرؤوا تقرير ديوان الرقابة المالية الجديد وأمعنوا جيداً في صدى هذا التقرير، لعل في ذلك إجابة.. !
الأيام 31 اكتوبر 2008