المنشور

قرض التأمينات للممتلكات


جرى في الفترة الأخيرة أمرٌ استفزّ غالبية مواطني مملكة البحرين، شعر فيه كل مواطن عامل مؤمن عليه بالغبن والحسرة! ففي وضح النهار وعلى مرأى من الجميع وفي تحدٍ صارخٍ، بلغةٍ أشبه بـ’كسر العظم’.. بل’ كسر ظهر’ المواطن المؤمن عليه لغرض وضعه أمام الأمر الواقع، دون الرجوع إلى أصحاب الشأن الحقيقي في هذا المال العام، الذي تعود ملكيته للأغلبية الساحقة من المواطنين المشكلين آلافاً مؤلفة من المتقاعدين وورثة المرحومين من الأرامل واليتامى، بجانب العاملين المساهمين شهرياً في هذه الشركة التعاونية العامة والشراكة الوطنية الأكبر في البلد.
 قلنا في وضح الظُّهيرة (أَشْكَرَه والعين تَرَى) جرى إقرار تحويل تسهيلات مالية تُقدّر بمبلغ مئة مليون دولار من ذخيرة القوى العاملة الوطنية واحتياطاتهم المستقبلية، كجزءٍ(خُمس) من مجموعة قروض (سنديكيت قرض) بلغت 500 مليون دولار.
حُوّلت المئة مليون دولار مباشرة إلى شركة ‘ممتلكات’ القابضة بفائدة منخفضة جداً(رمزية) وبدون أي تعهد أو ضمان من قبل الدولة! قاد وشارك في العملية بنك البحرين الوطني بالإضافة إلى مشاركة مجموعة من البنوك أهمهم: المؤسسة العربية المصرفية/بنك البحرين والكويت/البنك البحريني السعودي/ فرع بنك الكويت الوطني/بنك السلام / بيت التمويل الكويتي/ بنك طوكيو ميتسوبيشي والأخير هو البنك الأجنبي الوحيد، ساهم بمبلغ أقل من مساهمة هيئة التأمينات الاجتماعية! جاء القرار بأغلبية أعضاء مجلس إدارة هيئة التأمينات الاجتماعية المُعَيَّنةالمُفَوَّضة، بقوة الثلثين الضامنين ممثلي الحكومة والقطاع الخاص ضد الثلث الأضعف ممثلي عمال وموظفي البحرين، الأمر الذي يعكس بوضوح التركيبة العتيقة غير الديمقراطية،التي لا تتماشى مع التطورات الايجابية والإصلاحات المشهودة في بلدنا منذ حلول الألفية الثالثة، بدا فيه القرار المذكور فوقيّا غير مؤسساتيّ. حيث من المفترض أن يكون الإحساس بالأمانة ( المالية أساسا ) والحفاظ على المال العام، ناهيك عن ذخيرة المؤمن عليه، جوهر تجربتنا الديمقراطية ومن صلب أولوية الأولويات في سبيل أن تسلك بلدنا سكة السلامة والأمن الاجتماعي.
والمضحك المبكي أن قرار القرض هذا قد تم التطبيل له كصفقة استثمارية تعود بالفائدة على رأس المال، أي انه استثمارٌ وليس قرضاً. فبعيدٍ عن الجدل البيزنطي ما إذا كان قرضاً أو استثماراَ، وان نتكلم بلغة الاستثمار الاقتصادي نتفق معكم أيها السادة أن القرضَ شكلٌ رئيسٌ من أشكال الاستثمار ولكن يا سادة ألا تتفقون مع الرأي الآخر الصائب من أن ‘الهيئة’ ليست جهة أو مصرف للقروض(حسب لوائحها الداخلية)، هذا أولاً.
 ثم .. كم عدد القروض السابقة التي شُطبت بجرّة قلم في السنوات السابقة؟ وبعد ذلك.. كيف تُهب قروض(استثمارية) بلا ضمانات حقيقية؟ وأيضا .. من الذي يحق له أخذ قرار خطير كهذا والتصرف في مالٍ ليس له؟.. الأسئلة المؤلمة تطول وتطول محاولة للبحث عن سببٍ مقنعٍ لإصرار الحكومة على تمرير هذا القرض، فإننا لا نجد أي تبرير منطقيّ، خاصة انه كان بإمكان الحكومة من إعطاء ضمانات أكيدة وواضحة مقابل القرض المذكور.. لعل التفسير الوحيد الذي يجول في أذهان المواطن هو الاستمرارية في النمط السابق وفرضه سيكولوجياً على الثقافة المجتمعية لقبوله كأمر واقع، لتتحول إلى تقليد من الصعب اختراقه، بهدف أن تظل أموال الناس في ‘الهيئة’ كالسابق أسوة ببقرة حلوب للباحثين عن سيولة – سهلة المنال- في أي وقت يشاؤون.
انه في الواقع مؤشرٌ خطيرٌ من حيث انه تجاوزٌ لمواد الدستور البحريني والقوانين الضابطة للعملية الاستثمارية والإدارية. بل يشكل ثقبا مرئياً في مسيرة تجربتنا الديمقراطية الوليدة ويمثل نهجاً واضحاً في الاستمرارية بالسياسات السابقة فيما يتعلق بهذه المسألة الأكثر أهمية في مجتمعنا ألا وهو ضرورة الحفاظ على هذه الأمانة العامة المرهونة في ضمائر ورقاب المعنيّين. في السابق كان يجري الاستفادة من هذه الخزينة الاحتياطية كسيولة تحت تصرف المتنفذين الأقوياء، بلا حسيب أو رقيب ، حيث كان الوضع السياسي يسمح بضرب القيم الديمقراطية والمؤسساتية عرض الحائط.. نعتقد أو يبدو لنا أننا نعيش الآن في بلدِ المؤسسات والقانون، ولم يعد في مجتمعنا الديمقراطي الناشئ، في هذا العهد الجديد، مقبولاً من أن تكون الهيئة والصندوق بمثابةِ خزينةٍ تحت تصرف الأقوياء .
نعتقد أن الخلل ليس في الأشخاص المسؤولين المحترمين ولا حتى بسبب أن وزير المالية بحكم منصبه – حسب اللوائح- هو رئيس مجلس الإدارة في المؤسستين (على أهمية هذين العاملين)، بل المشكلة تكمن في المعايير والقوانين الضابطة، التي شاخت وتحتاج إلى تغيير، بالإضافة إلى عدم كفاءة الكادر التخصّصيّ المعنيّ لاستثمار هذا المال العام، الذي يجب أن يكون -استثمارياً- في أيادِ أمهر وأخلص الأخصائيين حتى تُدر على أصحابها بأفضل النتائج الربحية المرجوة بعيداً عن إستراتيجية المقامرة والمضاربة.. وكما يفيدنا السجل فقد زاد حجم الاستثمار مقترباً من ربع بليون دينار في السنة الماضية مقارنة بـ180 مليون تقريبا في سنة 2006 أي بزيادة 44 مليون دينار.
لكن جرى الاستثمار -للأسف- في السوقين الأساسين، الأميركي والأوروبي بالرغم من المؤشرات السلبية لهذين السوقين في السنوات القريبة الماضية، وعدم الأخذ بعين الاعتبار أهمية الأسواق والمحافظ الاستثمارية البديلة والواعدة والأكثر أمنا في الأسواق الشرقية، والانطلاق من فلسفة، عدم وضع كل البيض في سلة واحدة.
والآن كل تلك الأخطاء الماضية والهدر سيدفع ثمنه المواطن المؤمن عليه- قبل غيره- ثم القطاع التجاري وحتى الحكومة. هل من المعقول أن المؤمن عليه، الذي يدفع 20% شهرياً لمدة 20 إلى 25 سنة مع عمره الافتراضي المتدني – نسبيا- سيتسبّب بهذا العجز ‘الاكتواري’ ،الذي تجاوز 3 مليار دينار، مما يستدعي زيادة في اشتراك المؤمن عليه(حسب رأي الخبراء القيمين على الصندوقين/التقاعد والتأمينات) بُغية تقليل حجم العجز ‘الاكتواري’ البالغ في نهاية 2007 ثلاثة ونصف مليار دينار تقريبا. ولم يجد هؤلاء مخرجاً آخر غير سلك درب ‘استغلال المواطن’ أي رفع الاشتراك الذي قد يصل إلى 33% بالنسبة للصندوق و21% بالنسبة للتأمينات!
باتت الحاجة الملحّة تستدعي تغييراً كبيراً في تركيبة ميزان القوى في مجلس إدارتيّ التأمينات والصندوق وسرعة توحيدهما وسنّ تشريعات جديدة عصرية تلائم سمعة مملكة البحرين الجديدة، بشكل يكون فيه واضحاً وجود غالبية في مجلس الإدارة تمثل أصحاب الشأن، ممثلي المتقاعدين أولاً، أي الأغلبية الصامتة غير المنضوية تحت مظلة أية نقابة. ومندوبي اتحاد العمال (ممثلي القوى العاملة الحالية) بالإضافة إلى ممثلي مصالح طرفيّ المعادلة، القطاع الخاص فيما يتعلق بالتأمينات والطرف الحكومي بالنسبة للصندوق. هذا بالطبع في حاجة لتغيير التشريعات الحالية المنظّمة لهذا الجسم المالي الحيويّ، بغية شرعنة وشرعية التصرف القانوني السليم في صندوق الادّخار الوطني العام هذا، بشكل شفّاف وبمعايير ديمقراطية دقيقة.. ولا ندري-بالطبع- إن كان بالإمكان الوصول إلى المأمول والمرتجى عبر الجهة التشريعية المعنيّة وهي المجلس الوطني بغرفتيه، المشهود والمشغول بالصراعات والخلافات وسياسة الدوران حول نفسه والغرق في المسائل الإجرائية والانتقال من ملف لآخر(خاصة مجلس النواب)! إن أصحاب ‘الحلال’ في المؤسستين وخاصة التأمينات (موضوعنا هنا) وقوى المجتمع المدني معنيّون بهذا الأمر الحيويّ المهم.  
ولذلك فان الناس تتوقع وتأمل التدخل المباشر والحاسم لأصحاب القرار لتعديل هذا الوضع الغريب. 



 
الوقت 2 نوفمبر 2008