حتى الآن ما زال جُهدُ الترجمة العربية موجهاً للنقل من اللغات الأوروبية. ليس تحت أيدينا بيان أو إحصاء بهذا الخصوص، ولكن نظرةً عامةً على الكتب المترجمة تجعلنا على يقين من أن هذه الكتب نُقلت إما عن الفرنسية أو الانجليزية أو الروسية، وفي العقدين الأخيرين عن الاسبانية.
وبالتالي فان »الآخر« بالنسبة إلينا كقارئين للترجمات، هو الآخر الغربي الذي كُدنا نختصر فيه العالم، ناسين أن في هذا العالم لغات أخرى عريقة ثرية شكلت وعاء خصبا لثقافات عظيمة خاصة في آسيا، وليس من سبب يدعونا لعدم الاهتمام بالثقافات الصغيرة أو بالأحرى ثقافات الشعوب الصغيرة، فمثل هذه الثقافات قادرة هي الأخرى على أن تقدم أسماء لامعة في مجال الإبداع والفكر.
»كافكا «مثلاً، ينتسب إلى شعب أوروبي صغير هو الشعب التشيكي. »لوكاش«، الذي كان لفترةٍ طويلةٍ علامةً مُهمةً في الفلسفة والنقد، ينتسب هو الآخر إلى بلد صغير هو المجر. وقد لا تُضاهي ايطاليا صيت فرنسا وبريطانيا، ولكنها أعطت أسماء مُهمةً في الحقل الثقافي تخطى صيتها وأثرها نطاق أوروبا. من يستطيع، مثلاً، أن يبحث في مفهوم المثقف أو مفهوم المجتمع المدني من دون أن يكون قد قرأ شيئاً لغرامشي.. وهكذا دواليك.
لكننا ما زلنا في دائرة الآخر الغربي، الأوروبي، وننسى أننا، كعرب، موزعين على قارتين عظيمتين هما آسيا وإفريقيا. هنا كان مهد الحضارة العالمية، ولكن جهلنا بثقافة وأدب شعوب هاتين القارتين يكاد يكون مُخزياً.
ماذا نعرف عن ثقافة الهند مثلا؟ حتى طاغور وصَلنا كصدى لاهتمام الغرب به، لسنا من اكتشفهُ أو سعى لمعرفته. وماذا عن الصين، ثقافةً وتاريخاً وأدباً، إذا ما استثنينا تلك الشذرات التي قدمها بعض المأخوذين بعمق هذا البلد وغرابته وعراقته مثل الراحل هادي العلوي؟
ومن نعرف من الباكستان سوى محمد إقبال، وماذا نعرف عن إيران القريبة جدا التي تشاطرنا التاريخ والجغرافية. إن »الآخر« القريب منا، الآخر الشرقي، والآخر المسلم، الآخر الآسيوي والآخر الإفريقي، مجهول تماما أو يكاد يكون مجهولاً من قبلنا.
الترجمة إلى العربية، إذاً، ليست عشوائية فقط وخاضعة لمبادرات المترجمين أنفسهم، وإنما هي أيضا انتقائية في اختيار اللغات التي تجري الترجمة منها، وليس خافياً علينا أن المركز الحضاري العالمي هو اليوم في الغرب، سواء كان ذلك يروق لنا أو لا يروق، لكن هذا المركز كان دائم التنقل من قارةٍ إلى قارة على مدار التاريخ الإنساني، وليس من المؤكد انه سيبقى في المكان الذي هو فيه الآن.
ولكن من شأن المركز أن يكون بؤرةَ الجديد في كل شيء، بيد أن العالم هو دائماً في حالة سيرورة وتحول، وبوسع شعوب وبلدان مغمورة حالياً، أو قابعة في الجانب المعتم من دائرة الضوء أن تكون لها مساهماتها الثرية في الفن والإبداع والفكر والفلسفة.
لقد طالَ أمدُ التفاتنا إلى الغرب، حتى كادت رقابنا تنحني لشدة وطول انحنائها إلى هناك. ألم يحن بعد وقت تدريب هذه الرقاب على الالتفات شرقا؟!
صحيفة الايام
29 اكتوبر 2008