دور الروّاد يجب ألا يُؤخذ مفصولاً عن المرحلة التي ظهروا فيها. فتلك كانت مرحلةً رياديةً في أمورٍ كثيرة: في السياسةِ وفي الفكرِ وفي الأدبِ وفي الفن، وكانت إرهاصاتُ العديد من المبدعين قد تفتّحت على شكل مشاريع نهضوية، استقلالية، تحررية، وعلى شكل أعمال إبداعية رديفة أو موازية. كانت تلك مرحلة قطعٍ مع ماضٍ تآكلت شرعيته التاريخية لصالح مستقبلٍ واعد، يضج بالأحلام والآمال الكبيرة، ولهذا المقطع الزمني الحاسم كان رجاله ونساؤه من المبدعين والمبدعات الذين اصطلحنا على تسميتهم بالرواد. والريادة كما هو واضح من الكلمة تعني البداية، بداية ارتياد طريق جديد أو فكرة جديدة، ولتحقيق ذلك تتضافر عوامل مختلفة، بعضها موضوعية وبعضها ذاتية، موضوعية بمعنى أن الظروف السياسية والاجتماعية قد تهيأت لتحقيق النقلة إلى الجديد، والذاتية بمعنى أن الرائد نفسه يجب أن يكون على قدر من الموهبة والنضج الفكري والقدرة على تحسس الحاجة إلى التجديد والجرأة التي تتجسد في المغامرة بطرق دروب جديدة غير مألوفة، مع ما قد يجره ذلك من أتعاب ومتاعب، وهذه صفات توفرت بقدرٍ يزيدُ أو ينقص عند الرواد العرب. لكن ليس ضرورياً أن يكون الرواد أكثر موهبةً واطلاعا من مبدعين لاحقين لهم، انطلقوا مما أنجزه هؤلاء الروّاد وتجاوزه بكثير، ولم تتهيأ لهم أسباب الشهرة والانتشار التي تحققت للرواد، وليس جائزاً ما يردد أحياناً من أن الإبداع توقف بانتهاء عصر الرواد أو غيابهم، فبعدهم جاءت تجارب إبداعية أهم وأنضج، بعضها نال حظهُ من الانتشار والبعض ظل مغموراً. وأعتقد أن الزمن سينصف هذه التجارب في وقت لاحق. وعلينا ألا ننسى أن الظروف قد تغيرت كلية، فنحن الآن في فترة نكوص وتراجع وخيبة آمال، وفي حياتنا الفكرية والثقافية تتدهور قيم العقلانية والتنوير والتسامح والاجتهاد الحر الجريء، لصالح المزيد من الانكفاء على الذات والتحجّر والجمود، وأظن أن مناخاً كهذا يحجب الإبداع الحقيقي ويطمسهُ، خاصةً في غياب المرجعيات الفكرية والمشاريع المستقبلية. ولكن علينا ألا نغفل أهمية آمال إبداعية كبرى في حياتنا، فالحديث عن نضوب الإبداع غير دقيق، لأننا نتعاطى مع تجربة الرواد كتجربة منجزة، أدت دورها، أصبح بإمكاننا أن نقيمها ونحن على بعدٍ زمني كافٍ منها، أما إبداع اليوم فهو تجربة تُعاش، تتبلور، تتحول. إنها في حالة صيرورة وتَشكلْ. ولا بد من انتظارِ بعض الوقت حتى يمكن أن تُقَيّم هذه التجربة، ونحن على بعدٍ كافٍ عنها، هي الأخرى كذلك.
صحيفة الايام
28 اكتوبر 2008