في افتتاح الدور الثالث للفصل التشريعي الثاني لعام ٨٠٠٢ أشار جلالة الملك في خطابه السامي إلى مجمل الأمور المستقبلية القريبة منها والبعيدة، وقد تعرض لقضايا حيوية كثيرة تهم وطننا وحياتنا المعيشية والتنموية كمواطنين ينظرون للمشروع الإصلاحي منذ ولادته بروح التفاؤل التاريخي، بكونه المخرج الذي ولد لحظة الاحتقانات الطويلة، فكان المشروع بمثابة ولادة جديدة ة ما زلنا في ديمومة مخاضها ونتائجها التي تتبلور يوما بعد يوم رغم التحديات والصعوبات والتعرجات المتعددة من كافة الأطراف، فهناك سيل من المعوقات التي ستظل لوقت من الزمن وبحاجة إلى حكمة الصبر والمرونة والعمل، واستيعاب المتغيرات والعوامل الداخلية والخارجية، فبدون فهم تلك المعادلة تصبح رؤية الشعب لقراءة المشروع الإصلاحي ناقصة وضيقة. ما طرحه الخطاب هذه المرة من رؤية اقتصادية، ليس إلا حلقة مكملة للرؤية السياسية التي جاء بها المشروع الإصلاحي، وإذا ما تأخرت تلك الرؤية لسنوات سبع نتيجة انشغالات سياسية في ملفات كثيرة مبعثرة ومشتتة تارة ومتوترة ومترهلة تارة أخرى، فان الانعطافات والمرتكزات الجديدة في هذا الخطاب تمحورت في المشروع الاقتصادي، فكان محوره يتركز في أهمية وقيمة المواطن والوطن والتنمية، والتي لم تكن غائبة عن البال طوال تولي الملك سدة الحكم، فقد ظلت هاجسه في تلك السنوات، إذ لم يخلُ خطاب أو لقاء أو مواد ونصوص في الميثاق والدستور إلا وتضمنت تلك الاهتمامات الجوهرية للإنسان البحريني، الذي هو أثمن قوة رأسمال للوطن، فالبحرين ستظل دائما لا تعتبر النفط هو المرجع الدائم لحيويتها بعد أن تنضب تلك الثروة، وإنما عقل وإنتاج إنسانها هو ضمانة وجودها ورخائها. لهذا منح الخطاب الملكي المواطن البحريني الخيار الأوحد والمستفيد الأول من ازدهار خيرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مملكة البحرين. ولكي تترجم كل تلك النصوص والخطب واللقاءات الملكية، فعلينا أن نبني جسورا من الثقة المتبادلة بين السلطات الثلاث في مناخ الحريات المتواصلة والمعمقة القائمة أساسا على احترام حقوق الإنسان البحريني وسيادة الدولة ومؤسساتها الأمنية والقضائية والدستورية والمدنية، بل وعلى ذلك المواطن أن يستوعب الفكرة الجوهرية من معنى أن يكون هو المحور الذي تدور حوله كل تلك الحركة التنموية، ومطلوب منه كمواطن أن يستوعب دوره المستقبلي في موازنته بين الحقوق والواجبات وبفهم متطلبات المرحلة الحساسة في عالم متقلب بالأزمات وبعواصف كاسحة لا تحتملها اقتصاديات دول صغيرة تعتمد على النفط وحده، كمورد من مواردها ومصدر من مصادر رفاهيتها وازدهارها. لهذا يصبح الإنسان البحريني مستقبلا طاقة إنتاجية حيوية تعتمد على اقتصاد المعرفة والاستثمار المتاح في مجال التعليم والتقنيات المتقدمة، ومن يفكر خلاف ذلك فإن التاريخ لن يرحمه. من عاش معنا السنوات السبع بكل تقلباتها وهمومها، لا يمكنه أن يعيش في حلقة التشاؤم والعجالة والقفز الأهوج، وفي ذات الوقت لا يجوز لنا أن نسترخي لكل تلك التراجعات والبطء في أحلام تحويل البحرين كدولة حديثة ومتطورة تناسب الألفية الثالثة، وتعيش روح العصر بعقل مفتوح على كل ما يدور خارج حدودنا ومملكتنا، فما عدنا في عالم العزلة والانغلاق والتزمت والخوف. ما كرسته السنوات السبع من ثقافة جديدة لدى شعبنا، خاصة الجيل الشاب، انه صار يتفاعل مع كل حدث هام كالخطب الملكية الهامة، فهي بمثابة الشأن الأساسي الذي يهم حياته ومستقبله ومستقبل أبنائه، فصار المناخ العام للحريات المتاحة والإعلام المتدفق في مجالاته المتعددة ودور الجمعيات السياسية والمهنية واهتمامها، بكل ما يدور في قلب المجتمع من غليان، مما جعلنا اليوم إزاء ثقافة مختلفة عن كل المرحلة السابقة التي عرفناها. دون شك أن الخطاب الملكي كان يتضمن جوانب عدة وحسب التوصيفات المتنوعة له كخارطة الطريق، والتي نود أن تكون خارطة أفضل من تلك الخرائط العربية المتعثرة، فخارطتنا البحرينية لها سماتها وخصوصيتها في مسك الخيوط التي نتوسم فيها طريقنا الحقيقي في ظلمة الأحداث العالمية المتأزمة. ولكي تصبح التنمية مثمرة ومؤثراتها مجدية فان الاستقرار السياسي مهم، ليتيح للاستثمار العالمي والخليجي والعربي مجالا لاختيار الأمكنة الهادئة ولأبواب مفتوحة وحاضنة، فبدون ازدهار اقتصادي للوطن فان مستوى دخل الفرد لن يتقدم ولن تنتقل حياته الى الأفضل، مثلما لن يكون الوطن زاهرا بمواطن لا يستوعب دوره وحقوقه. وقد كان محقا بروتوغوراس عندما قال إن الإنسان معيار الأشياء جميعا، وسيكون هذا الإنسان هو المواطن البحريني الذي ينتظر الوطن منه الشيء الكثير، مثلما ينتظر ذلك المواطن من وطنه أن يحتضنه تحت سقف حياتي آمن ومعيشة هانئة بكرامة ورخاء، وحقوقا تحفظ له كرامته وتصونها. مجتمع يدرك معنى أن تتعايش فيه المرئيات المختلفة أيا كان نوعها، وتتحاور فيه الأفكار والثقافات والإيديولوجيات المتناقضة بروح من النقد الأخوي المسؤول، فخارطة الطريق البحرينية المنشودة تعلمنا أن العنف والفوضى لن يكون إلا عدوا لدودا لتنميتنا الاقتصادية المنتظرة، والذي لن يكون طلسما سحريا علينا انتظاره في بيت من زجاج نقذفه بأحجار من نار.
صحيفة الايام
28 اكتوبر 2008