في 15 من الشهر الجاري استذكر كثير من الاقتصاديين والسياسيين الاقتصادي الأميركي الكبير جون غينيث هلبرايت في ذكرى ميلاده المئة. درس هلبرايت الاقتصاد في جامعات هارفارد، كاليفورنيا وبرينستون. لم يكن نظرياً فحسب، بل وعمل تطبيقياً مع إدارات أربع رؤساء أميركيين: روزفلت، ترومان، كيندي وجونسون. رأس الجمعية الاقتصادية الأميركية ونال كثيراً من الجوائز والأوسمة ومراتب الشرف. اعتبره كثيرون ممثلاً لاتجاه المؤسسية الذي اختلف مع الليبرالية الجديدة. انطلق هلبرايت من المقدمة الآتية: «يجب أن يواصل المجتمع الرأسمالي تحمل المسؤولية الكاملة إزاء مواطنيه الأقل حظاً، فيقدم لهم المساعدات غير المشروطة التي يجب أن ترفع من مستوى حياتهم ثم يؤمن لهم تشغيلاً أكبر». نُعتت وجهة نظره بالمعنوية الأخلاقية – وهي الركيزة التي بني عليها نظرياته.
كان هلبرايت يحذر من أن أميركا تخطئ دائماً عندما تأخذ في اعتبارها اعتماد التقدم بشكل مباشر على نمو الناتج المحلي الإجمالي. حسب هلبرايت، يجب أن يقاس التقدم بأعداد الناس الذين تم تأمين المكان الكفء لهم في المجتمع، وليس شيئاً آخر. وهكذا، فإن الهدف الأساسي للدولة الرأسمالية، من وجهة نظره، هو إجراء الإصلاحات الرامية إلى تحسين حياة الطبقة الدنيا. والأداة الرئيسة هنا هي ضمان العمل اللائق. وكل الأهداف الأخرى – اشتقاقية ليس إلا[1].
كان يسعى إلى إبراز ميزات دور الدولة في الاقتصاد وكذلك آليات السوق التي حذر من اقتفائها بشكل أعمى. وليته لم يرحل بعد ليشهد الانهيار الأعظم من «انهيار 1929 العظيم». وكان هذا هو عنوان كتابه «The Great Crash 1929» الذي اعتز به أكثر من أي من كتبه الكثيرة[2].
ركز هلبرايت اهتمامه على دراسة آليات ظهور وسريان حياة المجتمع العالي التطور الذي أطلق عليه اسم «المجتمع الصناعي الجديد»، ويمكن إطلاق هذه التسمية على المجتمع «المعلوماتي» العالي التطور، أو المجتمع الذي تهيمن فيه التقنيات العليا. مبادئ نشأة هذا المجتمع، أو فلسفته إذا شئتم، هي المادة الأساسية التي يبحثها هلبرايت.
باعث الحديث عن هذا الاقتصادي الكبير ليس فقط ذكرى ميلاده المئوية، وإنما أيضاً تصادفها وإعلان عاهل البلاد يوم الخميس الماضي الرؤية الاقتصادية للمملكة حتى العام .2030 وفي ظروف الأزمة المالية التي تعصف بالعالم من أقصاه إلى أقصاه يشكل طرح رؤى تنموية خاصة ببلد ما، وبأفق استراتيجي يمتد لأكثر من عقدين من السنوات خطوة جريئة، لكنها مطلوبة بإلحاح. فلا آفاق لتطوير لا يستند إلى رؤى برنامجية واضحة المعالم ومبنية على أسس علمية. والرؤية الاقتصادية 2030 جديدة شكلاً ومضموناً. المضمون الجديد، وللمرة الأولى، يقدمه النص بتحديد كمي وزمني: «يتمثل الهدف الرئيس للرؤية في زيادة دخل الأسرة الحقيقي إلى أكثر من الضعف بحلول العام 2030[3]». وهذا يذكرنا إلى حد بعيد بالهدف الإنساني الذي صاغه هلبرايت للنموذج الاقتصادي للمجتمع الصناعي، المعلوماتي أو القائم على التقنيات العليا.
وبالجرأة نفسها، وللمرة الأولى أيضاً، يجري الحديث عن «أداة» تحقيق الهدف عبر: «تغيير نموذج النمو الاقتصادي الحالي[4]». حقاً، من دون تغيير النموذج الحالي لن يحدث تقدم حقيقي. لكن الرؤية تطرح ذلك بمعنى «تصحيح» العلاقة بين قطاع الدولة والقطاع الخاص لصالح الأخير: «اقتصاد يحفزه القطاع الخاص المبادر، وتوجد فيه المؤسسات والمشروعات التي تعتمد على معدلات إنتاجية عالية..»، «.. ما يوفر فرص عمل مجزية للمواطنين البحرينيين[5]». لنبق في إطار تصحيح العلاقة بهذا المضمون. هنا لابد من تساؤل: عندما تكون الدولة مهيمنة على قطاع النفط – القاعدي لأي نموذج للتنمية المستدامة، فهل يمكن الحديث عن دور ريادي للقطاع الخاص فيها، وما نوعه؟ كأن ممثلي القطاع الخاص وفي يوم إعلان الرؤية نفسه، حيث افتتح معرض البحرين للعقارات، أوحوا بجواب محدد: «أصبح القطاع العقاري المحرك الرئيس وراء انطلاق مسيرة التنمية. وتمتلك البحرين اليوم مشروعات تقدر قيمتها بنحو 15 مليار دولار[6]».
وتشير تصريحات أخرى إلى أنه حيث حقق ارتفاع أسعار النفط فوائض للعام الثالث على التوالي، فإن «المستفيد الرئيس من هذا الوضع هو قطاع التطوير العقاري وتطوير البنية التحتية[7]». أما بالنسبة إلى المستقبل فيرى ممثلو هذا القطاع أنه «لاتزال البحرين في طليعة منحنى النمو لكونها أول بلد في المنطقة يمنح مشتري العقارات حق التملك الحر[8]». وهكذا، فإن مفهوم التنمية لديهم يختزل في مفهوم «التنمية العقارية» الذي درج في الأدب الاقتصادي منذ فترة، وفي بلد يشكل فيه شح الأرض مشكلة اجتماعية واقتصادية كبيرة. القطاعات الأخرى التي ينشط فيها القطاع الخاص، محلي وأجنبي، هي المال والاتصالات لما تحققه من ربحية عالية في فترات، لكنها تقود إلى أزمات في فترات لاحقة.
لكي تنجح الرؤية في بلوغ غاياتها الاجتماعية فإن هناك حاجة بالفعل إلى تصحيح علاقة قطاع الدولة بالقطاع الخاص. قبل كل شيء عبر الأدوات الضريبية الفعالة والعادلة التي تمتص فائض الدخول لصالح الفئات الاجتماعية الأقل حظاً والتي تجعل من القطاع الخاص شريكاً حقيقياً، بقوة القانون وليس بالإحسان فقط، في عملية التنمية المستدامة بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. كما أن النظام الضريبي هو ما سيجبر المؤسسات الاقتصادية على العمل بمبادئ الشفافية والإفصاح ويطهرها من الفساد الإداري والمالي، إذ لابد من كشف كل الدفاتر والملفات أمام الدولة. النظام الضريبي يمكن أيضاً أن يستخدم كأداة فعالة لحفز إدخال التكنولوجيات والتقنيات الحديثة في الإنتاج ولتشجيع قطاعات اقتصادية معينة عن طريق المفاضلة الضريبية التي تخدم إعادة البناء الاقتصادي. وبغير ذلك ما كان لأشد الاتجاهات يمينية في أميركا إبان «الريغانية» في الثمانينات تخفيف العبء الضريبي إلا بشرط حفزه إعادة البناء التكنولوجي.
هذه الأخيرة، أي إعادة البناء الاقتصادي بتغيير نوعية الاستثمار وإحداث توازن وترابط القطاعات الاقتصادية وإدخال وتوطين التكنولوجيات والتقنيات المتقدمة ووضع القطاع الخاص في هذا المجرى والمصب، هي أساس التغيير الحقيقي لنموذج التنمية الحالي إلى النموذج المنتج والعالي الإنتاجية والتنافسية، والموفر لفرص العمل اللائق والمجزي، بما يحقق للرؤية 2030 هدفها الإنساني المعلن والنبيل حقاً. فهل من خلال هذه الرؤية سيطل علينا جون كينيث هلبرايت من خلال مستشارين ببصيرته؟
[1] انظر ذلك في www.inosmi.ru، 15 أكتوبر/ تشرين الأول .2008
[2] انظر: صحيفة «ذي غارديان» (The Guardian) 15 أكتوبر/ تشرين الأول .2008
[3]، [4]، [5]: الرؤية الاقتصادية لمملكة البحرين .2030
[6]، [7]، [8]، «عالم العقار»، ملحق صحيفة «الوسط» البحرينية، 23 أكتوبر/ تشرين الأول .2008
صحيفة الوقت
27 اكتوبر 2008