وعلى عكس ما يقوله مندوبُ الحزب الشيوعي اللبناني في الندوة السالفة الذكر بكون الطائفة المارونية هي حجرُ العثرة في تطور لبنان لأنها حازت كل الثروة، فقد كانت هي بعضُ الانقاذ المأمول، لو أن امثاله وتياره واليسار اللبناني عامة أمتلكَ شيئاً من بُعد النظر، فتيار تصعيد العداء لم يؤد إلا إلى انهيار بذور الحداثة.
تمظهر العداءُ الطبقي (الشيوعي)، (البروليتاري) للبرجوازية كما يتمظهر ذلك في جملة أيمن ضاهر بالعداء للموارنة، وهو أمرٌ كان يخفي عداوة الفقراء المحدودة للأغنياء، كما يتماشى ذلك مع توجهات الحركة الشيوعية وقتذاك بتصفية البرجوازية وإقامة النظام الاشتراكي.
لقد تملكت الحزبَ الشيوعي واليسارَ رغبةٌ تسريعيةٌ وهدفٌ مباشر هو القضاء على البرجوازية، فالبرجوازيات لا تستطيعُ أن تقيمَ دولةً ديمقراطية، كما أنها عميلةٌ خائنة، ومظاهرُ ذلك لدى هذا الوعي كثيرة، فهي تعادي المعسكرَ الاشتراكي وهي تقيمُ علاقات مع الغرب، وهي تشغلُ العمال بأجور متدنية، وهي ترفض التصنيع الواسع، وهي أساس النظام الطائفي، ثم هي تعادي الوجود الفلسطيني المسلح ذروة حركة التحرر العربية الخ…
إن الدخولَ في هذا السياق السياسي علامةٌ واضحة على المراهقة، لكن تنفيذه على صعيد الحياة كان انتحاراً. وإذا كان ذلك لا يستندُ إلى فهمٍ حقيقي عن الاشتراكية ومدى وجودها في المعسكر (الاشتراكي)، لكن هذا يشيرُ كذلك إلى وجود دكتاتورية قوية في اليسار اللبناني، وإلى اعتمادهِ على نقل النسخ المستوردة من الشرق، ولهذا كانت الأدبيات السياسية وقتذاك تصدح بمنجزات الشقيق الأكبر وعظمة البلدان الاشتراكية وتندفع الوفود السياسية والشبابية للاندماج في هذه التجربة العالمية ويجرى تحضير القوى السياسية لهذه المعركة الفاصلة مع البرجوازية المارونية.
وكان ذلك مفيداً ومهماً في العديد من الجوانب وبنشر ثقافة جديدة في المنطقة لعب فيها لبنان الجديد هذا دوراً كبيراً، لكن صيغة تلك الايديولوجيا لم تخضع لتحليل عميق وأدت إلى مشكلات كبيرة للحركة السياسية العربية التقدمية، وكان دورها في لبنان أخطر وأفدح.
لكن ذلك لا يعني أيضاً عدم رعونة حزب الكتائب والتيارات اليمينية المتطرفة الأخرى، فكان العداء للمسلمين وارداً على جدول الأعمال منذ نضال الاستقلال، وظهور التيارين الأساسيين: تيار الوحدة مع سوريا وتيار الوحدة مع فرنسا.
وبطبيعة الحال كان هذا ميراثاً لقمع المسيحيين في الامبراطوريات المذهبية السابقة، ولكن عوضاً عن إنتاج فكر وطني علماني تكرست التيارات المسيحية في الهياكل الطائفية، والأخطر ذهابها للفاشية، مما كان يقود إلى تطاحن هائل.
ولم يكن لعداء التيارات (الإسلامية) ضد المسيحيين جذور طبقية في فقراء غير مثقفين وفي مثقفين فقراء في الفكر فحسب، بل تربضُ تحته العداءاتُ الدينية بين المذاهب الإسلامية والمذاهب المسيحية. ويجرى تصويره كصراعٍ طبقي بين البروليتاريا الثورية والبرجوازية الطائفية المتعفنة.
كانت عمليةُ إنتاجِ فكرٍ ديمقراطي وطني علماني متعثرة في تاريخ لبنان كما في الدول العربية. كان الحزبُ الشيوعي اللبناني قد تأسس بفاعليةِ بعض المثقفين المسيحيين، ثم قام يسرعُ دورَهُ في مجتمع اكثر انفتاحاً من بقية الدول المجاورة، فتراجعت القياداتُ (المسيحية) داخل الحزب، وأخذت القياداتُ(الإسلامية) في الصعود وخاصة القيادات الشيعية، وبهذا توجه الحزب أكثر فأكثر نحو قوى الشرق التقليدية، فأخذ طابعهُ الديني الشرقي المتماثل مع ديانات الشرق المحافظة عموماً في البروز. فقد كانت تجاربُ الأحزاب الشيوعية العربية واعدةً في توجهاتها الوطنية الديمقراطية حتى إذا تجاوزت هذا الدور أخفقت، لأنها تكون حينئذٍ ناسخة لدور عالمي لا يجد إمكانية حقيقية في واقعها وفي أعضائها.
وكان الانتحار هو في الدخول إلى سياق الحرب الأهلية، الذي ترتب على تشكيل مواجهة داخلية يسارية – يمينية، رفدها الحضور المسلح الفلسطيني والتآمر الإسرائيلي الغربي.
لقد لعبت تلك الجذور الفكرية السياسية دورها في دفع اليسار اللبناني للمواجهة، ولم يشتغل على المهمات الديمقراطية والتحديثية بشكل استراتيجي مطول، فأدى هذا إلى نضوب طاقاته حتى الجسدية منها، وتراجعه عن بؤرة الحياة السياسية، وصارت أجنحة منه تعود للوراء، إلى المعسكرات المذهبية السياسية، بشكل اصطفافات بدلاً من نقد ذلك الماضي وتجاوزه.
ويمكن أن نرى في اصطفاف الحزب الشيوعي اللبناني مع المحور السوري – الإيراني تتويجاً لهذا المسار المتعثر، فتظهر جملٌ مماثلة للزمن القديم تحت مضمون مغاير، فهذه الجمل تؤكد أهمية التصدي للإمبريالية ولدعم القوى التي تواجهها في المنطقة، لكنها لا تنتقد غياب الديمقراطية في هذه الدول، وهو الغياب الذي أدى إلى الانهيار في مواجهة الاستعمار.
بل ان هذا الغياب شديد الخطورة على دول المنطقة، وفي تصعيد التسلح والحروب، وهي الأمور التي تقود إلى أوضاع مضادة لتلك النيات.
وكما رأينا في تراجع الحزب الشيوعي العراقي نحو مواقع مذهبية معينة يحدث هذا أيضاً في الحزب اللبناني، فقد صارت القوى المذهبية ذات طابع مؤثر بدلاً من أن يقود التقدميون هذه القوى إلى آفاق النضال الحقيقية.
إن غياب النضال الوطني العلماني قاد هذه الأحزاب تدريجيا إلى التماهي مع المحور الإيراني – السوري، يقول بيان من الحزب الشيوعي اللنباني:
«إننا نستطيع أن نؤكد ان نضالنا وتضحياتنا وفق النهج الذي سرنا عليه بتوجيهات مؤتمري الحزب الثاني والثالث قد أعطت حزبنا رصيدا نضاليا، استمر خلال السنوات اللاحقة للحرب الأهلية، ومن شأنه أن يزيد من دورنا اللاحق في معركة البديل الجذري لنهج التراجع والاستسلام في قيادة حركة التحرر الوطني لشعبنا ليس فقط في لبنان بل في العالم العربي عامة. إننا نؤكد من رحم هذا الوعي الثوري، أن الشيوعيين ربطوا مصيرهم بمصير حركة التاريخ، بمصير انتصار إرادة الشعوب العربية، وربطت القوى المنحرفة قوميا مصيرها بمصير المد الإمبريالي في منطقتنا الذي هو اليوم في أوجه. بمصير الصهيونية والرجعية العربية).
هل تصنع العبارات الحماسية شيئا إيجابيا؟ لقد تدهور اليسار بعمليات المغامرة، ومن دون أن يعني ذلك عدم تجميع القوى الممكنة والعمل على حشد الفرقاء كافة لتغيير ديمقراطي علماني ووطني.
صحيفة اخبار الخليج
27 اكتوبر 2008