تأملت مثل غيري من كافة مواطني البحرين الخطاب الملكي، فقد صارت لدينا ثقافة جديدة تشكلت خلال السنوات السبع بفضل فضاء الحريات الجديد، والذي لم نكن نتمتع به سابقا، واعتقد أن كل نصف أعمى يرى ذلك، وكل أصم بلغت إلى أذنه رنة الندوات والحوارات بمستوياتها المختلفة وسمعها. تأملت كغيري في نص الخطاب الملكي، حيث انه هذه المرة أبحر في ميدان مختلف أكثر تركيزا على الرؤية الاقتصادية، مما جعلني أعود للوراء لسبع سنوات محاولا تقليب مرحلة عشتها وتلمست فيها كل الهموم والأحلام، وقد علمتني التجربة المحسوسة دروسا جديدة ومختلفة، وعلمتني أن بالإمكان الصعود بالحلم نحو الغيوم، ولكن لن أخطو على الأرض خطوة واحدة لحل مسألة تتعلق بلقمة العيش للشعب، ولن أستطيع أن أخطو خطوات صغيرة ومفيدة بدلا من الركض في الوهم دون فائدة. تأملت وأنا اقرأ الخطاب متسائلاً: أين نحن من تلك السنوات وما الذي ينتظرنا في السنوات السبع القادمة؟ هل نأمل منها المن والسلوى أم نتعلم الواقعية ونستعد للتعاطي مع كل مجريات الأحداث المحتملة والانتكاسات الممكنة، وفي ذات الوقت علينا أن ننظر لكل مشروع ايجابي بروح من التفاؤل على انه سيحقق لنا خطوات ايجابية نحو الأفضل. كان بالإمكان أن نزعق في الشوارع دون فائدة، فقد أكسبتنا مهارة الماضي التعلم من تجربة الألم، وان نلمس الجراح ونعض عليها، عندما تقتضي المواجهة والكبرياء، دون الدخول في خطاب المزايدة، فمن ركضوا أكثر مما حققوا من منجزات ظلوا يبحثون عن ظلهم وهم يدورون حوله، فما نجحوا في مسك ذلك الظل، ومن خرجوا وأربكوا الملفات الصغيرة والكبيرة كنا نشاركهم في المحنة ونختلف معهم في المنهج، ولكنهم كانوا قد قرروا اختيار طريقهم ولا يمكنهم فرض خياراتهم على الآخرين بالقوة، حتى وان رغبوا امتطاء حصان البطولة في خطاب الاستعراض، فضحكنا من الحماقة كما ضحك معنا الكثيرون، ولكنهم واصلوا خطابهم على أساس من التعنت والعصبية التي تفرز وتستولد مثيلتها دائما، وقد أسعدهم ركض الجماعات خلفهم في البداية، وعندما اكتشفوا أن تلك الجماهير ليست ملكهم وتخلت عنهم من خطاب المقاطعة النيابية إلى المشاركة أصابهم الإحباط، واكتشفوا أن الرهان كان خاسرا فما قبلوا إلا المزايدة مرة أخرى، فعادوا يدقون على نفس الطبلة دقات الرقص ذاته عن أن الدستور تم انتهاكه وان الدستور ناقص وان الحياة النيابية في ظل وجود الغرفتين ستلجم المعارضة وتحد من قوتها، فقلنا لهم نحن نقرأ النصوص كما تقرأونها فما هو ذلك الاكتشاف العجيب؟، فلغتنا هي العربية ولغتكم كذلك اللهم الا ان تكون النصوص لها أوزان مختلفة، فلم نقل إننا لا نوافق على أن الأمور ليست مكتملة وان الظروف فرضت تلك التنازلات والخيار الأفضل هو القبول بما هو ممكن ومتاح بدلا من الرفض المطلق والنضال من خارج دائرة الرفض المطلق، فصار لدى الجميع خيارات مختلفة، فاحترمنا خياراتهم ولكنهم لم يحترموا خياراتنا في اختيار الطرق المناسبة لانجاز الأحلام وتحقيق الأهداف البعيدة. في تلك اللحظة التاريخية كان علينا أن نبني أحجارا صغيرة في بيت صغير، فدخلت البحرين في مساحات من التقدم والازدهار النسبي، فباتت النقابات والجمعيات أصوات مسموعة في وسط المجتمع وتبني وعيا وتراكم خبرة وتعلم الأجيال معاني عدة خارج الاستعراضات البطولية للعمل السياسي. كنا مع التجربة النيابية بكل الملاحظات فعلى الأقل يتعلم الشعب تجربة جديدة تتيح له قراءة السياسة وتعلم دروسها وثقافتها الجديدة، تعلمه ماذا يعني اليأس والأمل والصبر بدلا عن الهذيان، فوجدنا من شتموا بالأمس صاروا في ركب الواقع فيما البطولة الاستعراضية تواصل صراخها كيفما تريد، فنحن في وطن الاختلاف والديمقراطية، ومن يرغب ان يكتب ما يريد فهو حر ومن يريد أن يسمع كلاما مثيرا فهو حر ومن يرغب أن يرمي بأحجاره فهو حر ومن يود الانتحار فلا احد بإمكانه أن يوقفه. ما يهمنا أن نتصفحه خلال السنوات السبع، هو تلك النغمات النشاز في وقت يتحاور فيه الناس كل يوم بطريقتهم في الأجور والأسعار والغلاء والسكن وغيرها من الملمات والهموم وينتقدون كل شيء بطريقتهم، ولكن الأمر الوحيد الذي اخذوا يحسنونه أن الهذيان والشتائم والأحقاد لا تعلم الشعب البصيرة ولا تقوده لتحقيق الانتصارات الصغيرة وهي مقدمات لخطوات أوسع. ما حققته الطبقة العاملة خلال السنوات السبع لم تحققه الاستعراضات البطولية الكلامية كلها، فقد وجدنا حالنا أفضل حالا من الماضي وتعلمنا أكثر مما تعلمناه سابقا تحت الأرض، فكل ما كنا نسعى إليه أن نرفع رأسنا من تحت العتمة ونحاور الناس بشكل مكشوف وواضح وعلني فلماذا لا نرى تلك الحقيقة؟ ونحاول فقط أن نتمسك بمثل لا يمكننا تحقيقها الآن ولا يمكن تحقيقها حتى ولو زلزلت الأرض، فكل شيء مرتبط بالظروف وليس الرغبات، مرهون بالمتغيرات وليس العويل والمثل الطوباوية العمياء!! من تسعدهم خطبة عبارتي تداول السلطة والمملكة الدستورية »على غرار ممالك الغرب العتيد المتحرر من أشياء كثيرة بما فيها النقاب والفتاوى وتاريخ من المعارك النقابية في مجتمع صناعي متقدم، وشرائح وطبقات تخلت عن مكوناتها العشائرية والطائفية منذ ردح طويل«، فلو أتاح لنا الوقت كل هذا أو اختصر لنا التاريخ ذلك فلماذا لا نحلم بتلك المملكة البابوية، فالفاتيكان ليس أحسن منا!! لهذا كنا دائما نركب عربة أخرى مختلفة، ولكننا نحاول أن نمضي بطريق أطول وأصعب وأكثر حكمة وهدوءا، فليس أحجار الشوارع قادرة على تحقيق المملكة الدستورية ولن تمكنها زجاجات المولوتوف من تداول السلطة، بما يدفعها لرفع ميزانية الأمن والدفاع، بعدها ستصرخون مرة أخرى لماذا كل ذلك الإنفاق؟!، وقد كان عليكم أن تقولوا إن شارعنا السياسي هادئ ومستقر والتنمية بحاجة لكل ذلك وجميعنا سنبحر في قارب واحد لكي ننجز التحولات المرهونة بالوقت، ونمنح الجيل القادم أرضية ممكنة كلما وضعنا نحن أحجارها الأولى. الصراخ لم ينجز في التاريخ إلا الصدى، والهدوء كان يمنح التاريخ الحكمة، وبالحكمة تم حل اعقد الحروب واشد المشكلات تعقيدا، فلماذا نحن لا يمكننا تحقيق ذلك طالما نؤمن بالمستقبل؟، فلسنا من صانعي تاريخ الانتصار والبطولة والاستعراض الراقص.
صحيفة الايام
26 اكتوبر 2008