,, ذهبت الى موسكو في فترة صعبة، كنت شاهداً على لحظة الانهيار المدوي، واستوعبت المسافة الموجودة دائماً بين الحلم والواقع، المثال والتطبيق، لم تتزحزح قناعاتي في فكرة العدالة الاجتماعية وفي الاشتراكية بصفتها خياراً إنسانيا لحل مشكلة الاستغلال والتمايز الطبقي، خاصة وان الفوضى التي عمت روسيا ومحيطها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي برهنت على هذه المسألة،،
الامين العام للمنبر الديمقراطي التقدمي .. د. حسن مدن[1]
قصدت موسكو في خريف الاشتراكية.. ولم نناضل لأن الاتحاد السوفيتي “قائم” حتى ننسحب حين “انهار”..
حاوره وسام السبع
للرجل مكانة مكينة في عالم الثقافة والادب، وله قَدم وقِدم، فهو كاتب مقال صحافي معروف وتنشر مقالاته عدة صحف محلية وخليجية وعربية، أطل من شرفة الادب على جحيم السياسة، منح العمل السياسي رونقاً إنسانياً، أعطاه إحساساً أعمق بعذابات البشرية، والتفت إلى أوجاع الإنسان وأصغى بإنصات إلى أحلامه.
من قال ان المثقفون لايشعرون بآلام الناس ؟ مدن يدحض هذا الافتراء.
أمعن هذا الماركسي الجسور إدمان المنافي، وغازل العواصم العربية بقصائد عصماء حروفها من دموع المعذبين ومدادها من عرق الكادحين. هو المسافر دوماً وفي يديه الحقيبة وفي قلبه يقيم الوطن. شتم الامبريالية وخاصم الدكتاتوريات ولم يحفل بالنتائج، أعطي من وقته وجهده لمبدأ ناضل طويلاً مع “الرفاق” من أجل تحقيقه ولم يسأل عن الثمن، لانه كان قد نذر ما هو أغلى. آمن حدّ العقيدة بحتمية انتصار المحروم. أعطى للعمل الحزبي هدوءه واتزانه، ومبدئيته وثباته، وكان ولايزال، الاقدر على إنتاج الخطاب السياسي المعتدل للمنبر في التعامل مع خصوصية المرحلة واللعب على توازناتها الصعبة في ساحة عمل يسيطير عليها مزاج إسلامي صاعد، يؤجج من غلواء تداعياته تشرذم موجع لصفوف التيار اليساري..
هذا الحاصل على الدكتوراه في فلسفة التاريخ الحديث والمعاصر هو وصية أحمد الذوادي للتيار التقدمي قبل الرحيل.. ومنذ ديسمبر / كانون الأول 2002 يتبوأ مدن موقع الامانة العامة للمنبر الديمقراطي التقدمي والى اليوم.
نشط في السبعينات والثمانينات في الحركة الطلابية والشبابية داخل وخارج البحرين وله مساهمات في الصحافة الحزبية. استقر في دولة الإمارات العربية المتحدة بين 1991 – 2002، حيث عمل رئيساً لقسم الدراسات والنشر في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة وأسس مجلة “الرافد الثقافية الإماراتية وعمل مديراً لتحريرها عشر سنوات متواصلة، كما عمل مديراً لتحرير مجلة “دراسات” الصادرة عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات بين 1991 و 1998، أعد برامج ثقافية وسياسية حوارية لقناة دبي الفضائية فترة إقامته في الإمارات، وخضعت بعض نصوصه للتدريس في المقررات الدراسية في المرحلتين الإعدادية والثانوية في دولة الإمارات.
اختارته منظمة اليونسكو عضواً في لجنة تحكيم جائرة الثقافة العربية التي تمنحها المنظمة، ويعمل حالياً مديراً لتحرير مجلة البحرين الثقافية الصادرة عن قطاع الثقافة والتراث الوطني في وزارة الإعلام. وقد صدرت له عدة مؤلفات أبرزها “خارج السرب”، “الثقافة في الخليج أسئلة برسم المستقبل”، “مزالق عالم يتغير”، “تنور الكتابة”، “لا قمر في بغداد”.
الدكتور حسن مدن المولود في 10 ابريل 1956 يتحدث هنا عن تجربته في صفوف التيار الديمقراطي وذكريات العمل النضالي فالى نص اللقاء.
******
في نهاية الستينات وانا في نهاية المرحلة الابتدائية، في الصف السادس أصبح لدي تعلق بشخصية الزعيم المصري جمال عبدالناصر، اذ وقعت في يدي – في تلك الفترة – بالمصادفة نسخ من مجلات مصرية أتذكر منها مجلة “المصور” و “آخر ساعة”، لم تكن اعداداً جديدة في حينها بل كانت تعود لسنوات سابقة وقد تضمنت مواد كثيرة عن شخصية عبدالناصر والدور الوطني للرجل والثورة المصرية.
أثرّت قراءاتي لهذه المادة في تفتح ذهني على عوالم جديدة، ونمت لديّ الشعور الوطني ومعاداة الاستعمار، خاصة وان البحرين كانت يومها محمية بريطانية، ولم يكن في داخل العائلة من يمكن ان اتحدث معه عن هذه التوجهات والهموم التي بدأت تتشكل في ذهني الصغير وقتها.
في السهلة الجنوبية حيث كنا نسكن كان أحد أقاربي: “عباس البحاري” – وهو أحد أعضاء المكتب السياسي للمنبر التقدمي الآن – عضواً في جبهة التحرير الوطني، وكان معروفاً بهذه الصفة، لأن كل من كان يعمل في صفوف الحركة الوطنية وقتها كان يطلق عليه صفة “شيوعي” التي بدت يومها صفة لغالبية النشطاء السياسيين.
لأمر ما، وجدت نفسي أتحدث معه في محاورات مطولة عن التجربة الناصرية وجمال عبدالناصر ومن هذا المدخل وجدت نفسي رويداً رويداً اقترب من الفكر اليساري، وبعد حين، لم يطل، انضممت لجبهة التحرير من خلال المنظمة الطلابية للجبهة التي كانت تعرف باسم الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، والتي كانت قد شكلت للتو في مارس 1968.
بعد ذلك بشهور تعرضت الجبهة لحملة أمنية واسعة النطاق، وكان قريبي عباس البحاري أحد من اعتقلوا فيها، وكانت هذه الضربة أولى ثمار عمل ايان هندرسون بعد أن أعاد ترتيب جهاز الأمن اثر الفوضى التي عمت فيه بعد استهداف قادته بوب وأحمد محسن من قبل الجبهة في مارس 1966 وكانت حملة هندرسون هذه ضربة موجعة في نتائجها على مجمل نشاط التنظيم.
لكن بعد الضربة الأمنية بوقت ليس طويل أعيد بناء بعض الخلايا الحزبية، من قبل الذين لم يطلهم الاعتقال، أو ممن خرجوا من المعتقل بعد فترة وجيزة، هنا لم أعد ناشطاً طلابياً فقط، وإنما أصبحت عضواً في خلية من خلايا الجبهة، وأُرجح إن ذلك تم في نهايات عام 1968 أو في مطالع العام الذي تلاه، وفي المرحلة الثانوية أصبحت ناشطاً بارزاً في صفوف الطلاب.
بسبب تعقيدات الأوضاع الأمنية والسياسية كان لعضو الجبهة أكثر من صورة من صور النشاط والعمل، لذا كنت تجد من يعمل في صفوف المنظمة الطلابية للجبهة: الاتحاد الوطني لطلبة البحرين وهو في ذات الوقت عضواً في الجبهة.
بعد التحرك العمالي في مارس 1972م بأشهر جرت تحركات في صفوف طلبة الثانوية وكان لمنظمتنا الطلابية دوراً مهماً في هذا التحرك فقد صغنا مذكرة مطالب رفعت لوزير التربية والتعليم المرحوم الشيخ عبدالعزيز آل خليفة طرحنا فيها مطالب تتعلق باطلاق حرية العمل النقابي بتشكيل فروع للاتحاد الوطني لطلبة البحرين الذي تشكل في الخارج بصورة علنية، إضافة إلى مطالب مهنية أخرى تتعلق بالمناهج والرعاية الطبية للتلاميذ.
التجربة الصحفية المبكرة
أصبحت في هذه الفترة أعمل محررا صحفياً بمجلة “صدى الاسبوع” التي يرأس تحريرها الاستاذ علي سيار وأنا طالب في مدرسة الحورة الثانوية. وأتذكر أنني في 1973 نشرت تحقيقاً في احد اعداد المجلة حول التحرك الطلابي الاخير، بدت وكأنها مادة صحفية ولكني كنت أهدف مما نشر تعميم مطالب التحرك الطلابي الذي بدأنا به، واذكر ان وزير التربية والتعليم قال في حينه “اننا نتفهم ان تشجع الصحافة المحلية الاقلام الشابة، لكن ان يبلغ الامر بها ان تضع هذه المادة الصحفية مانشيتاً على الغلاف، فهذا أمر غير محبذ”.
على خلفية دوري في هذا التحرك الطلابي، تم فصلي وأربعة طلاب آخرين فصلاً نهائياً من مدرسة الحورة الثانوية بقرار من وزير التربية والتعليم، وقد اضطررنا إلى تقديم الامتحانات بنظام المنازل، دفعني فصلي من المدرسة الى ان أكرس جل وقتي للعمل الصحفي في “صدى الأسبوع”، فقد كنت اكتب تحقيقات واشرف على زاوية ثقافية عنوانها “مسرح الفكر” تعنى بالنصوص والدراسات النقدية، وكان زملائي في العمل عدد من الوجوه الصحفية البارزة مثل علي سيار رئيس التحرير، وعقيل سوار وعلي صالح وآخرين.
وكلفت من إدارة المجلة بالتغطية الصحافية لجلسات المجلس النيابي وقتها، وواصلت العمل في عملي الصحفي حتى عطلة المجلس الصيفية الأولى قبل أن أغادر البلاد للدراسة متجهاً للقاهرة، وهي تجربة جعلتني على تماس مباشر مع تطورات الحدث السياسي في البلاد فضلاً عن كوني منخرطا بالفعل في العمل السياسي.
كانت لكتب سلامة موسى الكاتب المصري الشهير وروايات الأديب اللبناني جورج حنا التي كانت متداولة في صفوف الخلايا اليسارية دور في تكوين شخصيتي الفكرية، وقرأت مبكراً روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، وأشعار السياب والبياتي وسعدي يوسف وصلاح عبد الصبور ومحمد الفيتوري، كما اطلعت على الادب الكلاسيكي الروسي من خلال رموزه الكبيرة: ديستوفسكي وتولستوي ومكسيم غوركي وأسماء أخرى.
الحيـاة في القـاهرة
ذهبت الى القاهرة في أكتوبر 1974، كانت الحياة النيابية لازالت قائمة في البلاد، وبعد عام دراسي في الجامعة عدت في الاجازة الصيفية الى البحرين والتحقت فور عودتي بالعمل الصحفي في “صدى الاسبوع” مجدداً، وحدث ان رئيس التحرير علي سيار كان يقضي إجازته الصيفية خارج البحرين، وكان إبراهيم بشمي قد أصبح يعمل مديراً لتحرير المجلة، وقبل حل المجلس بأسابيع صدر عدد من المجلة تضمن عدة مقالات ومواد أثارت حفيظة الدولة، وكان من بينها تحقيق عن “العمالة الاسيوية: تجارة الرقيق الجديدة” لإبراهيم بشمي، فيما كتبتُ أنا مقالاً عن “العهد الناصري محور الصراع بين اليمين واليسار في مصر”، كما تضمن العدد بياناً أصدرته كتلة الشعب البرلمانية تنتقد فيه انسحاب الحكومة من جلسات المجلس عندما رفض قانون تدابير أمن الدولة، وقد صدر العدد محملاً بشحنة معارضة لاتنسجم مع ما كان متاحاً للصحافة وقتها، اعتقلنا أنا و إبراهيم بشمي ووجهت لي تهمة كتابة مقال يعكر صفو العلاقات بين البحرين ودولة عربية شقيقة (بند من قانون المطبوعات والنشر المعمول به) وحيازة مطبوعات تحرض على كراهية النظام. ذلك انهم اثناء تفتيش منزلي تم ضبط بعض الأدبيات، وبقيت في التوقيف 3 أسابيع وتم سحب جواز سفري. قدمت بعدها الى المحاكمة وصدر حكماً ببرائتي من التهمتين، كما صدر حكماً ببراءة ابراهيم بشمي، ولكن لم يفرج عنه إنما بقي في التوقيف ليكون ضمن من طُبق عليهم قانون أمن الدولة.
ولابد من الإشارة هنا الى أن الأستاذ علي سيار حضر في المحكمة كشاهد وقال بأنني رئيس التحرير وانا من يتحمل كامل المسؤولية عما نشر في مطبوعتي، فأدين علي سيار بدفع غرامة مالية بصفته ناشراً.
كانت هذه الفترة إيذانا ببدء مرحلة “أمنية” جديدة في البحرين، من خلال تكريس العمل بقانون أمن الدولة الجائر، والذي كان أولى ضحاياه مجموعة من اعضاء وقيادات في جبهة التحرير نفسها، أحمد الذوادي ويوسف العجاجي وعباس عواجي وأحمد الشملان وعبدالهادي خلف، والذين تم اعقالهم في يوليو 1974، ومع أن قانون تدابير امن الدولة كان ينص على عدم تجاوز مدة الاحتجاز ثلاث سنوات، إلا أن ثلاثة من المجموعة (الذوادي وعجاجي وعواجي) بقوا في السجن لأكثر من خمس سنوات. فيما اطلق سراح عبدالهادي خلف وأحمد الشملان بعد اول جلسة للمحكمة نظرت في ملفاتهم.
المهم، بعد تبرئتي من المحكمة وبعد مماطلة حصلت على جواز سفري المحتجز، وغادرت إلى القاهرة مرة أخرى لمواصلة دراستي، وما هي الا شهور حتى اعتقلت هناك بطلب من السلطات البحرينية واتخذ قرار بتسليمي للبحرين، ولكن لحسن الحظ، فان جهوداً بذلتها منظمات طلابية وحقوقية عربية أسهمت في تعديل القرار من تسليمي الى البحرين إلى مغادرة القاهرة للجهة التي اختارها.
سافرت إلى بغداد بتوجيه جاءني من عبدالله البنعلي مسؤول تنظيم الجبهة في الخارج الذي كان وقتها في العراق بسبب اندلاع الحرب الاهلية في لبنان، كان ذلك في صيف عام 1976، بقيت في بغداد شهوراً قد تصل الى سنة، وكان حزب البعث في السلطة، برئاسة احمد حسن البكر وقتها متحالفاً مع الحزب الشيوعي وبعض الأحزاب الكردية، مما انعكس بشكل ايجابي على المناخ السياسي وكانت مطبوعات وادبيات الحزب الشيوعي وجريدته اليومية تصدر بصورة علنية.
بعد أن خفّت وطأة الحرب الاهلية في لبنان بعد دخول القوات العربية، طُلب مني أن أتخذ من بيروت مقراً لإقامتي وعملي الحزبي، وفي العاصمة اللبنانية أوكلت لي مهام إعلامية في الجبهة، إضافة إلى إدارة العلاقات الخارجية لـ اتحاد الشباب الديمقراطي (أشدب) والاشراف على منظماته الطلابية في الخارج.
انخرطت في العمل بالصحافة الحزبية بشكل كامل، وأصدرنا مجلة (النضال) وبعدها نشرة(الفجر) الشهرية، كما حررت وأشرفت على صدور مجلة (طريق الشباب) ومن مجموع ثلاثة عشر عدداً تم إصدارها، أشرفت على إصدار عشرة أعداد منها قبل ان انتقل الى موسكو لمواصلة الدراسة العليا.
كنت قد أنهيت السنة الأولى في كلية الحقوق بجامعة القاهرة قبل مغادرتها، وواصلت دراستي في بيروت حيث التحقت بالسنة الثانية في كلية الحقوق إلى أن أنهيت دراستي فيها، ثم سجلت للدراسات العليا بالجامعة اللبنانية غير ان الاجتياح الاسرائيلي لبيروت دفعني الى مغادرة البلاد بعد خمس سنوات من الإقامة المتواصلة فيها، انتهى الوجود الحزبي للجبهة في بيروت بعد هذا الاجتياح.
موسكو : شمس الاشتراكية الغاربة
عند الاجتياح الإسرائيلي كنت في مؤتمر لاتحاد الشباب الديمقراطي العالمي في العاصمة التشيكية براغ، وصارت عودتي لبيروت بعد الاجتياح متعذرة فتوجهت إلى الشام، وبقيت فيها لخمس سنوات أخرى إلى نهاية العام 1987م، حيث غادرت إلى موسكو.
أتيت موسكو في خريف الاشتراكية، حيث كانت مؤشرات تفكك الدولة السوفيتية واضحة، وازدادت الصعوبات الاقتصادية، وعشت التوتر السياسي الذي سبق انهيار الاتحاد السوفيتي، فقد تداعى جدار برلين وانهارت الحكومات الاشتراكية في أوربا الشرقية، وانتهى الامر الى تفكك الاتحاد السوفيتي نفسه.
في موسكو ركزت جهودي على المهمة الأكاديمية، حيث كان يتعين علي تعلم اللغة الروسية أولاً ثم الدخول في برنامج الماجستير وبعده الدكتوراه، وقد اقتضى ذلك جهوداً استثنائية في وقت محدد لم يزد عن خمس سنوات.
خصصت السنة الأولى لدراسة اللغة بكثافة، ولعدة ساعات يومياً، في السنوات التالية يدرس الطالب المواد التخصصية دون أن تتوقف دروس اللغة نفسها، وبالطبع تيسر العلاقات الاجتماعية والتخاطب اليومي للطالب مع الناس مهمة فهم اللغة وحتى إتقانها، تبعاً لقدرات الطالب وجديته، ويمكن الإشارة إلى أن السوفيت تراكمت لديهم خبرة جيدة لتعليم اللغة للأجانب بحكم العدد الهائل الذي كان يتوافد على الاتحاد السوفيتي من الطلاب الدارسين، ومن ضمنهم مئات الطلبة البحرينيين الذين ذهبوا إلى هناك من خلال منح كانت الهيئات الأكاديمية والمنظمات الاجتماعية السوفيتية تقدمها بشكل رئيسي لجبهة التحرير الوطني – البحرين (ج. ت. و. ب) والى حدٍ ما للجبهة الشعبية في مرحلة لاحقة.
قصدت موسكو في نهاية العام 1987م والاتحاد السوفيتي قائم، غادرتها في ديسمبر 1991، بعد حرب تحرير الكويت مباشرة، والاتحاد السوفيتي كان قد تفكك وانهار. كانت سنوات موسكو الخمس مؤثرة وهامة في تكويني الثقافي والإنساني. بعيداً عن الايديولوجيا والسياسة، فان روسيا بلد عظيم خلفه حضارة عريقة وثقافة عميقة جداً، وهناك ميراث خالد في الأدب، الشعر والرواية والقصة، وفي الفنون خاصة المسرح والباليه وحتى السينما، والشعب الروسي تربى على حب القراءة وتذوق الأدب والفنون.
استفدت من ذلك كثيراً واستمتعت به سنوات إقامتي هناك، ثم أن تعيش في بلد عظيم مثل روسيا، فان ذلك يوفر لك فرصة ذهبية لا للمثاقفة فقط مع ثقافة ثانية، وإنما أيضا أن تتعلم من حضارة وسلوك شعبها. العلاقة مع ثقافة وحضارة ولغة أخرى، ومع تاريخ مختلف، أمور مهمة في تكوين الشخصية وإثرائها وتوسيع أفق الإنسان، بصرف النظر عن الجانب الأيديولوجي والسياسي، يهمني هنا الجانب الحضاري والإنساني، فما أقوله عن روسيا ينطبق على التفاعل مع ثقافات بلدان أخرى مثل بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية.
كنت شاهداً على لحظة الانهيار المدوي للاتحاد السوفيتي، واستوعبت المسافة الموجودة دائماً بين الحلم والواقع، المثال والتطبيق، لم تتزحزح قناعاتي في فكرة العدالة الاجتماعية وفي الاشتراكية بصفتها خياراً انسانياً لحل مشكلة الاستغلال والتمايز الطبقي، خاصة وان الفوضى التي عمت روسيا ومحيطها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي برهنت على هذه المسألة.
ويجب أن أقول هنا، إننا جيل تعلق بفكرة الاشتراكية والتغيير ليس حباً في الاتحاد السوفيتي وانما لاعتقادنا إن مجتمعاتنا تستحق أن تعيش حياة أفضل وهذه قناعة لايمكن ان تتزعزع أو تتغير.
يجب علينا أن نفتش عن الأسباب التي أدت إلى فشل التجربة لا ان نعيد النظر في القيمة التي تشربناها وناضلنا في سبيلها. لذلك أنا احيي كل انسان لازال متمسكاً بهذه الروحية وهذا الفكر، ولا أفهم أبداً أولئك الذين تراجعوا عن هذا الخيار لمجرد سقوط الاتحاد السوفيتي، وأسألهم : هل كنتم تناضلون لأن الاتحاد السوفيتي كان قائماً أم كنتم تناضلون من اجل قيمكم ومبادئكم وسعادة شعوبكم ومصلحة بلدانكم.
محطة الشارقة
غادرت موسكو للبحرين، يحدوني أمل دخول البلاد، لم أكن املك جواز سفر، جئت بنسخة مهترئة من جواز سفر قديم، لم يسمح لي بالدخول طبعاً، بقيت 20 ساعة محتجزاً في المطار، ثم رحّلت بعدها إلى دولة الإمارات، بقيت في الشارقة، عشت فيها عشر سنوات كانت بالنسبة لي ورشة عمل ثقافي حقيقية، أصبحت مديراً لإدارة الدراسات والنشر في الدائرة الثقافية هناك، وصرت كاتب مقالة يومية بجريدة الخليج ، ما زالت مستمرة حتى اليوم، وأعددت أكثر من برنامج لقناة دبي الفضائية، كانت هذه البرامج ذات طبيعة ثقافية وسياسية.
يمكنني القول أني انخرطت في النسيج الثقافي والاجتماعي لدولة الإمارات، التي أشعر بالامتنان الكبير لها لأنها وفرت لي حياة مستقرة طيلة عقد من الزمان، وفتحت لي أبواب الفرصة للإسهام ولو بشيء متواضع في التنمية الثقافية لهذا البلد الغالي على نفسي، وكانت فترة عيشي في الإمارات من أكثر الفترات خصوبة وثراء في حياتي.
تتميز البيئة الثقافية في الامارات بأنها مزيج من المكونات العربية المختلفة، لذا فان كتابتي اليومية في صحيفة (الخليج) موجهة لقراء من بيئات مختلفة، وهو ما جعلني انفتح على آفاق واهتمامات تعكس هذا التنوع الثقافي، وهذا خلاف الكتابة في البحرين، حيث إننا غارقون في شأننا المحلي.
اهتممت بأن يكون هدف كتابتي الصحافية الإسهام ولو بشيء يسير في تطوير الوعي الثقافي والمعرفي للناس، وهي مهمة لا تقل – في اعتقادي – عن العمل السياسي اليومي المباشر، بل ربما أمكن التعويل عليها كذاكرة ثقافية للقارئ وللكاتب أكثر من الكتابة المباشرة التي تنتهي مع الحدث المرحلي والآني. أصنف طبيعة مقالاتي بأنها “تنويرية”.
المستوى المهني لجريدة الخليج والصحافة الاماراتية بشكل عام، وضعني في تحدي تجويد الأداء والكتابة الصحفية، فأنا اكتب في جريدة تعتبر من أهم الصحف وأكثرها شهرة لا خليجيا فقط وإنما عربيا أيضا، ووضعني مكان المقال (في الصفحة الأخيرة) في تحدي دائم وأمام إحساس بمسئولية الحفاظ على المستوى وتطويره.
كما ذكرت فان تعدد الجاليات العربية في الإمارات يجعل الكاتب على تماس مع قضايا عربية عديدة ويضعه في قلب احداث مختلفة، كنت أكتب لا عن الشأن الخليجي فحسب، وإنما عن الشأن العراقي واللبناني والفلسطيني، عند انتفاضة محمد الدرة لم اكتب شيئا عدا الشأن الفلسطيني على مدى شهرين أو ثلاثة، وقد تراكمت عندي مادة صحفية عن الشأن العراقي قبل الغزو الأمريكي وبعده، وتولت دار الخليج إصدارها في كتاب بعنوان”لا قمر في بغداد”.
أعتبر إسهامي ودوري الثقافي في الإمارات جزء من عملي الوطني، لانني ككاتب وانسان بقيت محتفظاً بالهم الوطني الديمقراطي ومعبراً عنه في كتاباتي، ومن جهة أخرى سعيت للمساهمة في التنمية الثقافية في دولة شقيقة، واشرفت على دورية ثقافية مهمة هي مجلة “الرافد”، وهذا الدور هو عمل وطني أيضاً حتى لو اتخذ مظهراً ثقافياً.
وبالمناسبة، لم تكن الإمارات في بداية الأمر هي خياري حين منعت من دخول البحرين، فقد قلت عندما سئلت أنني ارغب في الذهاب إلى الكويت ففيها معارف لي كان يمكن أن ييسروا من إقامتي فيها ويساعدوني في الحصول على عمل لترتيب أمور العيش، لكنني فوجئت بتذكرة تحدد، وبدون أي نقاش وجهتي إلى الإمارات، وأنا على كل حال ممتن لهذا القدر.
شخصية المثقف أقوى في داخلي من شخصية السياسي
باستمرار كنت أجد نفسي في المجال الثقافي أكثر مما أجد نفسي في العمل السياسي المباشر، فشخصية المثقف في داخلي أقوى من شخصية السياسي، ولم أكن لحظة عودتي للبحرين أتوقع أن أصبح رئيساً للمنبر الديمقراطي التقدمي، ولذا حين عرض عليّ الأمر المرحوم أحمد الذوادي، وكانت حالته الصحية قد ساءت، عبرت له عن ترددي في الموافقة، ولكنه وضعني أمام واجب علي أن أؤديه.
جئت إلى البحرين بعد المشروع الإصلاحي لجلالة الملك، وحضرت أول اجتماع تمهيدي للمنبر الديمقرطي عقد في نادي طيران الخليج في 2001، وكانت وجهة نظري أنه يجب التفكير في وحدة التيار الديمقراطي بشقيه (جبهة التحرير، الجبهة الشعبية) وان هذه الوحدة ستكون أحد جسور بناء التيار الديمقراطي، ولكن الامور لا تجري دوماً كما تحب.
ولازلت مقتنعاً بأن لا مستقبل للعمل السياسي ولوحدة المعارضة بعيدا عن وحدة التيار الديمقراطي، ولست في ذلك ضد التنسيق مع الحركات الاسلامية، بل يجب أن نجعل من التيار الديمقراطي الموحد مكوناً رئيسيا من مكونات العمل الوطني، المفارقة أن هذا الرأي – على خلاف الانطباع السائد – موجود عند بعض الإسلاميين، وقد سمعت هذا القول من الأمين العام للوفاق الشيخ علي سلمان أكثر من مرة.
العلاقة مع الذوادي ورئاسة المنبر
ويتحدث مدن عن علاقته بالقيادي الأبرز لجبهة التحرير أحمد الذوادي فيقول عنه :”التقيت بالذوادي لأول مرة في بيروت في أوائل السبعينات عندما كان منفياً، ثم التقيت به في البحرين بعد عودته في العام 1974 قبل أن يُعتقل في يونيو من نفس العام حيث بقي في المعتقل عدة سنوات، ثم جمعتنا دمشق مرة أخرى في العام 1987 قبل مغادرتي لموسكو بشهور قليلة، ولم التق به، بعدها، إلا في البحرين بعد الانفراج السياسي وعودة المنفيين من الخارج في 2002م.
كان المنبر يستعد لعقد مؤتمره الاول وكان أحمد الذوادي قد اتخذ قراراً بأن لا يعيد ترشيح نفسه لرئاسته، وطلب مني ترشيح نفسي خلفاً له اعتقاداً منه – كما قال- بأنني سأكون الشخص الأنسب لرئاسة المنبر في هذا الظرف، واعقد أن لهذا الطلب أثره الكبير في قبولي لهذا الدور، وقد أبديت له، كما أسلفت، تهيباً من المهمة لكنه شدّ من عزيمتي وأقنعني في نهاية المطاف، وطوال السنوات التي عاشها معنا قبل ان يتوفى كان يلح على استمراري في قيادة المنبر.
أما عن علاقته بمسئول جبهة التحرير الوطني – البحرين (ج. ت. و. ب) في الخارج ومسئول العلاقات الخارجية فيها عبدالله الراشد البنعلي فيقول :علاقتي بعبدالله الراشد كانت علاقة يومية، فقد عملنا معاً لسنوات طويلة في المنفى واستفدت كثيرا من شخصية الرجل وخبرته السياسية، فهو في تقديري سياسي جيد، ولديه ذكاء فطري ونباهة في التقاط الأمور، وكان أول من دفع بي إلى مهام قيادية في التنظيم، وأشركني معه، وكنت في مقتبل العمر، في اجتماعات الأحزاب العمالية العربية التي كان يحضرها الأمناء العامون لهذه الأحزاب مثل خالد بكداش ويوسف فيصل من سوريا وعزيز محمد من العراق وجورج حاوي من لبنان وسواهم من بقية البلدان العربية، كما استعان بي في صياغة بعض الوثائق والمواقف السياسية.
[1] لقاء صحفي جرى في المنبر الديمقراطي التقدمي مساء يوم الاثنين 19 مايو 2005م. استمر ساعتين ونصف.
نشر في جريدة الوطن 19 اكتوبر 2008