تكمن أهمية الشهادة الثالثة الأخيرة التي نتناولها من شهادات شخصيات عسكرية قيادية روسية عن حرب اكتوبر 1973 من أهمية صاحبها والمكانة الرفيعة التي كان يتمتع بها في الجيش السوفيتي وما يمتلكه من مؤهلات وخبرات قتالية في المعارك التي خاضتها بلاده دفاعا عن أراضيها، ولاسيما خلال الحرب العالمية الثانية في مواجهة الهجوم النازي الألماني على الاتحاد السوفيتي. فقد بدأ الجنرال نيكولاي ايفليف حياته العسكرية عام 1942، وعمل في الملحقية العسكرية البحرية بالسفارة السوفيتية في لندن أثناء الحرب وشارك في واحدة من أخطر وأهم العمليات العسكرية للحلفاء ضد المحور، ألا هي عملية إنزال جيوش الحلفاء (الإنجليز والأمريكيين خصوصا) على الشاطىء الغربي لأوروبا لفتح جبهة ثانية.
وهو بهذا كان مؤهلا تماما، كمستشار كبير، لمساعدة المصريين على عملية العبور والنزول على الضفة الشرقية المحتلة للقناة. وكان من ضمن القلة القليلة من الخبراء الذين أبقاهم السادات من المستشارين الروس بعد ان طرد غالبيتهم العظمى عشية حرب أكتوبر. وأوفد الى مصر عام 1970 وظل فيها حتى عام 1976. وهو يعد حينذاك عميدا للسلك الدبلوماسي العسكري في القاهرة.
يصف نيكولاي ايفليف حرب أكتوبر بأنها أول حرب عربية ــ إسرائيلية يخوضها الطرفان بأسلحة متطورة تجرب لأول مرة، سواء الأسلحة السوفيتية التي لدى الجانب المصري، أم الأمريكية التي لدى الجانب الإسرائيلي. ويضيف ايفليف أن هذه النقطة تشكل واحدة من أهم أسباب اهتمامهم بالحرب لمعرفة كيفية فاعلية هذه الأسلحة وأداء وتعامل المصريين معها كأسلحة متطورة، ضد خصم يملك هو الآخر أسلحة أمريكية متطورة.
ويشير الجنرال ايفليف إلى أنه كلف أثناء حرب اكتوبر بدراسة ومراقبة العمليات الحربية، وانه شارك في الحرب عندما ركب عبارة مع مستشارين سوفيت لا يتجاوز عددهم خمسة برفقة عدد من القادة العسكريين المصريين وعندما نزلوا على الضفة الشرقية للقناة وشاهدهم مجموعة من الجنود المصريين من الجرحى وغير الجرحى وعلموا بأنهم سوفيت، وتناهى الى مسامعهم بأنهم فوج روسي عسكري وان أفواجا روسية أخرى قادمة هللوا فرحين بقدوم الروس لتعزيز صمودهم مما يؤكد حسب قوله “شعبيتنا والمكانة التي يكنها لنا الجنود والشعب المصري”.
وباعتباره مكلفا بتسلم نماذج من غنائم القوات المصرية من الأسلحة والمعدات الإسرائيلية المتطورة المصابة، يقول ايفليف إن أثمن هذه الغنائم دبابة أمريكية “ام – 60” وطائرة تجسس استطلاعية أمريكية بدون طيار أسقطها المصريون ببنادق عادية. وانه وجد صعوبة شديدة في إقناع القيادة العسكرية المصرية بتسليمه كلتا الغنيمتين لإرسالهما إلى موسكو لدراستهما وتطوير الأسلحة السوفيتية اللازمة المضادة التي تشل فاعلية كل منهما. ذلك بأن السادات، حسب تعبيره، كان يخشى إغضاب الأمريكيين وهو يبيت النية لتوسيع علاقاته وتحالفه معهم بعد الحرب.
ويصف عملية العبور بأنها كانت عملية بطولية رائعة، وأن اختيار توقيت شن الحرب (يوم عيد الغفران لدى إسرائيل) كان اختيارا موفقا وذكيا، لكنه يأسف لعدم استغلال هذا التوقيت بشكل أكبر لتطوير الهجوم المصري والتوغل نحو العمق داخل سيناء مما أثار دهشته ودهشة القادة الميدانيين المصريين في الجبهات الأمامية. وكان السادات يبرر في البداية عدم التقدم بأنه تاكتيك لدفع القوات الإسرائيلية للتقدم الى الأمام نحو القوات المصرية وإيقاعهم بعدئذ في مصيدات لسحقهم.
ويضيف: “وكنا في البداية مع هذا التاكتيك الذي شاركنا المصريين في التخطيط له، ولكن لم يكن الأمر كذلك في النصف الثاني من الحرب إذ تحول التاكتيك لمخطط استراتيجي للسادات لجعل الحرب محدودة لا تتطور أكثر من ذلك”. وأشار الى أنه حتى وزير الحربية أحمد اسماعيل وعدد من القادة العرب طلبوا منه الاستمرار في التوغل بالتقدم داخل سيناء لكن السادات رفض ذلك. وهذا الموقف اتخذه السادات منذ ما قبل ثغرة الدفرسوار.
كما يكشف المستشار، الجنرال ايفليف، أنه بعد ثغرة “الدفرسوار” بدأت القوات الإسرائيلية تتقدم وتكسب عددا من المعارك المهمة، وانه لولا مباحثات الزعيم السوفيتي بريجينيف وضغطه على الرئيس الأمريكي نيكسون وتهديد موسكو بالتدخل في الحرب عسكريا إلى جانب مصر ليوقف الإسرائيليون تقدمهم ويقبلوا بوقف إطلاق النار لتمكن هؤلاء من الوصول الى شواطىء البحر المتوسط المصرية ولتمكنوا أيضا من قطع القوات المصرية في سيناء عن العمق المصري وبخاصة في ضوء تشدد جولدا مائير (رئيسة الحكومة الإسرائيلية حينذاك) التي كانت مع التقدم داخل العمق المصري من خلال “الثغرة” ومن خلال ساحل البحر المتوسط.
وحينما سئل ايفليف عن سر وقوف روسيا الى جانب مصر بالرغم من كل الإهانات التي ألحقها السادات بهم، كطرد الخبراء السوفيت والتشهير بهم في خطبه السياسية، أجاب بما مفاده أن مبدئية السياسة السوفيتية هي التي تفسر هذا الموقف، فلم يكن هذا الموقف من أجل سواد عيون السادات وإنما من أجل قضية شعب مصر الصديق العادلة لمساعدته على تحرير أراضيه المحتلة، كائنا من يكون رئيسه، السادات أو غير السادات.
وعلى الرغم من أن الرئيس الحالي حسني مبارك يعتبر نفسه امتدادا لسياسة السادات في التمسك بكامب ديفيد والحفاظ على «الصداقة« القوية مع أمريكا، فإن ذلك لم يمنع ايفليف من أن يكون موضوعيا في الإشادة به منوهاً بصداقته القديمة معه منذ أيام دراسته العسكرية في روسيا.
والحال ان شهادات القادة العسكريين الثلاثة تكاد تتوافق مع شهادات الضباط العسكريين المصريين الذين اختلفوا مع أسلوب إدارة السادات السياسية والعسكرية لحرب اكتوبر وفي مقدمتهم رئيس هيئة الأركان وقت المعركة الفريق سعدالدين الشاذلي.
وإذا كان الجيش المصري قد حقق كل تلك البطولات والانتصارات في حرب اكتوبر حتى في ظل الإدارة العسكرية والسياسية السيئة للرئيس الراحل أنور السادات فلك أن تتخيل كم كان سيحقق من بطولات أعظم، وصولا إلى تحرير سيناء بكاملها، لو كانت المعركة قد جرت في ظل قيادة الفقيد الرئيس الراحل عبدالناصر، ولو كان جميع المستشارين الروس لم يطردوا وشاركوا مثلا في معركة العبور. وسبق ان ذكرت ذات مرة أن توريط أو تورط موسكو عسكريا في هذه الحرب يجعل ضغوطها الدولية، كقوة عظمى، أكثر فاعلية وبخاصة حينما تخسر عددا من القتلى من مستشاريها مثلا، لكن السادات ما كان يعبأ أصلا لمعركة تحريرية شاملة من هذا النوع كما تأكد ذلك مقدما قبل الحرب ثم اتضح ذلك خلال مجريات الحرب ومواقفه وأسلوب إدارته لمعاركها.
أخبار الخليج 23 أكتوبر 2008