إن نظرية التطور لصاحبها تشارلز دارون نظرية مثبتة علميا، وليس ثمة مجال لأي جعجعة مضرة بالعلم والدين معاً.
ليس هذا ما نقوله بل هو أمرٌ صار من شؤون معاهد الأبحاث والجامعات.
فالوليدُ في بطنِ أمه تم تصوير تحولاته وكيف يعيش دورة الكائنات من كونهِ سمكةً حتى يمر بدور الحيوانات التي لها ذيول حتى يستوي إنساناً متجاوزاً لهذه المواضي الحيوانية. صورةٌ تختصرُ تاريخاً طويلاً وغنيةٌ عن أي بيان.
انها أشكالٌ مصورة لا تقبل الدحض وصار الذيلُ الذي يبرز في لحظات من تطور الجنين مادةً للضحك على أصل الإنسان.
يمكن لنا في مقالات أخرى أن نوضح ضخامة دور نظرية التطور في العلوم وفي التطورات البشرية الثورية المعاصرة. ويكفي هنا القول إن الغربيين وهم يستعدون لسكن الكواكب القصية جداً، يستعينون بنظرية التطور.
فكيف تدخل مثل هذه النظرية في مسألة غزو الفضاء؟
انهم يقومون بقراءة كيفية نشوء الكوكب الأرضي ومراحله، ويبحثون عن الكواكب المشابهة له في العمر والظروف، وقد وجدوا قمراً في مجموعة (شمسية) مقارباً لنشأة الأرض، ويعيش ظروفا مشابهة.
ويحدث هنا درس لنباتاته وكائناته المحتملة وكيف يؤثر اتساع الأوكسجين في أشكال هذه الكائنات، وقد عرض هذا في الأفلام العلمية في الفضائيات حتى صار عاديا. والعلماء الغربيون يتجهزون فعلاً ليكونوا شركاء في مثل هذا التطور، وفي استعمار الكون وتفيدهم النظريات العلمية في هذا التوسع، الذي هو بالنسبة إليهم حالة يومية قابلة للتنفيذ بسبب الميزانيات الضخمة المبذولة على العلم وعلى اكتشاف الكواكب والفضاء عامةً.
انها نظرية تفتح آفاقاً خطيرة على تاريخ الإنسان وتطوراته. وليس ممكناً لعاقل على هذه الأرض اليوم أن يجرؤ على القول بضلال غزو الفضاء وبطلان نظريات نشوء الكون التي تغدو مسائل يُبرهن عليها في المعامل المكلفة.
وفي الطب لنظرية التطورِ تطبيقاتٌ هائلة، وقد أدت المقارباتُ في دراسة الإنسان والقرد إلى العثور العلمي، وليس التهويمي والخيالي، إلى وجود نسبة عالية من التشابه البيولوجي (الجسدي) بين هذين الكائنين، ويصل إلى 95% من كيانيهما. وهذا تحديدٌ علمي أرجو أن يتفضل أحدٌ من الأطباء والمختصين بالبيولوجيا بتفنيده إذا كان خاطئاً.
وأن يكون للسمكة عينان وللأسد عينان وللإنسان عينان فهذا ليس كذلك مصادفة. هذا سجلٌ لتطور الكائنات، وتاريخٌ طويلٌ جرى في المحيطات، حتى أعطاك التطورُ أكملَ منجزاته.
ويتم في الطب خاصة الاستفادة من هذه المقاربات، وصار العلاج يجري بعد سلاسل من التجريب في الحيوانات، ولو كانت غير مقاربة لنا، ونائية عنا، ما قاموا بمثل هذه التجارب.
وقد حدثت ثورات في مجال البيولوجيا والكيمياء الحيوية بسبب ذلك.
ولكن هذا كله لا يعني خدش معتقدات الناس الدينية، وتحقيرها، وكذلك لا يعني التجمد عند نصوصها، ولنا في الغربيين أسوة حسنة، فقد قاوموا طويلاً النظريات العلمية وحرقوا أصحابها، وأبعدوها عن مجال الدرس والتربية، فما أفادهم ذلك شيئاً، بل أضر بهم. فكان أن أقبلوا عليها واستفادوا منها استفادةً عظيمة، من دون أن تزول المسيحية أو يخبو شأنها.
والتجربة يجب أن نستفيد منها لا أن نعيد تكرار أخطائها، فنظراً لتأخرنا علينا ألا نقاوم العلوم المجربة والتحقيقات المغيرة للعالم، التي مُحصت وجُربت وأفادت، وهذا لا يعني كذلك إلغاءنا لتاريخنا وتراثنا، فهما ركيزةُ عالمنا، ولنا وحدنا أن نكيفهما مع حداثة العالم.
وقد عملَ أجدادُنا في ظروف بسيطة وقاسية وفي محدودية علمية ثم تطوروا وابتكروا، وفسروا الماضي وتأولوا وفتحوا الآفاق.
وحتى إننا نجد بذورَ نظرية التطور لدى ابن خلدون وفي التراث الإسماعيلي، وقد وصلوا بالحدس إلى كون الكائنات من شجرة واحدة. وقد قال بعضُ الهندوس إنني اتألم حينما أقطعُ شجرةً.
وكم قام أطباؤنا وعلماؤنا بتشريح الحيوانات، والاستفادة من نسيجها المشابه للبشر، وابتكروا الأدوية المفيدة بناءً على ذلك!
ولكن هذا لا يعني المطابقة المعنوية والأخلاقية والفكرية بين عالم الإنسان وعالم الحيوان.
فللإنسان تاريخهُ الطويل الغني الحضاري المختلف، وقد تكون قد حدثت مقاربات للأجساد أما الثقافة والعقول والأخلاق فهي مكونات الإنسان والحضارات.
وقد تجمدت الكائناتُ الأخرى في مستويات دنيا، لأسرار وعوالم وأسباب لا تزال تخضع للدرس، ولا نزال نجهل كيفية نشوء الإنسان تماماً، ولا نزال لم نفك أسرار الكتب الدينية كليا.
ولكن الذي لا يقبل الدحض هو وجود العائلات الكبرى في عالم الطبيعة، التي سُميت الأنواع، التي تكونت في جغرافيا مشتركة.
ويجب ألا ندخل في معركة مجانية ضد العلوم، ونحجر النظريات الحديثة في المدارس والجامعات، مثلما أن علينا أن نؤصل جذور طلبتنا وشبابنا في تراثهم، غير صانعين تضادات بين الجانبين، وغير موجهين الأجيال الجديدة للصراع ضد العلوم والنظريات الحديثة، فهذه الصراعات تضرنا، وتعطلنا.
ولا شك أن ذلك سوف يؤدي إلى صراعات في العقول والمستويات، وإلى عدم قبول من الفريقين المتضادين المتطرفين الذين دينوا العلوم، والذين أنكروها أو أنكروا ما اعتقدوا أنه مضاد مع الأديان.
ولكن الموقف العقلاني المنفتح سوف يوجد حلولاً لهذه الصراعات والتناقضات المعرفية، على مستوى الممارسة الطويلة التاريخية، حين نعمق العلوم في حياتنا، وحين نقدر على قراءة النصوص الدينية بانفتاح ونضج.
أخبار الخليج 22 أكتوبر 2008