المنشور

هل الشيطان وراء الأزمة المالية؟‮!‬

ظلت لأسابيع قليلة مضت،‮ ‬كان المهتمون بالأزمة المالية الأمريكية وانعكاساتها المتوقعة على النظام المالي‮ ‬العالمي‮ ‬فقط،‮ ‬هم النخب الضالعون في‮ ‬مكعباتها ومسدساتها وجزيئاتها الرياضية ونظرياتها التخمينية والاحتمالية،‮ ‬فهم وحدهم من كانوا معنيين بمتابعة المؤشرات المرتفعة والهابطة كضربات القلب عند تزايده أو انخفاضه‮. ‬هؤلاء النخب ومنهم التكنوقراط وتحديدا العاملين في‮ ‬مجال المال وبيوت التموين والاستثمار في‮ ‬المجال العقاري‮ ‬وبنوكها العمياء،‮ ‬هم من أكثرهم متابعة لوجع ورقص شارع الوول ستريت،‮ ‬فمن هناك‮ ‬يولد بيت الشيطان وتفرخ أولاده بيضا ملونا بالعملات والأسهم والأحلام‮. ‬
كان حتى وقت قصير وحدهم المختصين‮ ‬يعرفون إلى أين‮ ‬يتجه القارب الغارق في‮ ‬مجونه وجنونه،‮ ‬فليس هناك إلا حضن الجحيم وأجنحة الشيطان،‮ ‬فوحده كان‮ ‬يحلق دون رقيب ويدخل الأمكنة دون رقيب ويفعل ما‮ ‬يشاء دون رقيب‮ ( ‬غياب نظام الرقابة المالية‮ ) ‬بل ويقرض ويقترض كيفما‮ ‬يشاء دون رقيب،‮ ‬المهم انه الوحيد من‮ ‬يسلب الفقراء جيوبهم،‮ ‬وكلما زادت معاناة الناس بالإفلاس والمصائب زاد جشعه بحثا عن رفاهية الامتيازات المنتظرة كونه بات زبدة الزبدة المدللة في‮ ‬مجالس إدارية لتلك البنوك العقارية،‮ ‬التي‮ ‬أثرت ثراء فاحشا من تلك اللعبة إلى إن أغرقت نفسها ومن حولها كما‮ ‬يفعل الشيطان عند اصطياده،‮ ‬فيخرج لك لسانه لماذا قبلت الوقوع في‮ ‬الفخ،‮ ‬يا لتعاسة المحرومين الباحثين عن بيت في‮ ‬الأرض وبيت في‮ ‬الفردوس،‮ ‬وقد نسوا أن الشيطان لا‮ ‬يمنح الناس إلا صكوكا مزيفة‮. ‬وبدلا من وضع تلك النخبة المدللة التي‮ ‬أدخلت العالم في‮ ‬لعبة المغامرة إلى حد الانتحار،‮ ‬نرى أصدقاء الشيطان‮ ‬يدافعون عنهم،‮ ‬بل ويصرون على مكافأتهم بدلا من محاسبتهم ووضعهم خلف أسياخ السجن. ‬
لهذا صارت الثورة الإعلامية كابوسا إضافيا لمن سقط في‮ ‬الأزمة وصار جزءا منها،‮ ‬بل وتحولت الماكينة الإعلامية إلى رعب إضافي‮ ‬للناس،‮ ‬حيث أصيب كل فرد بسيط في‮ ‬حالة من الذعر والتساؤل حول كل شيء مصرفي،‮ ‬ويسأل عن كل تلك المعادلات الصعبة والأسماء الجديدة التي‮ ‬غابت عن ذهنه لوقت طويل‮. ‬
فهل بالإمكان إقناع مواطن مبهور بالقوة العظمى وبلد الفرص والثراء بأن تصاب بهذه المحنة والتي‮ ‬تكاد تكون،،‮ ‬إعصار الأعاصير،،‮ ‬بل،،‮ ‬ويوم الحشر العظيم،،‮ ‬في‮ ‬الاقتصاد الأمريكي‮ ‬؟ فقد بات‮ ‬يقرأ المواطن الغلبان صاحب حساب التوفير براتبه الشهري‮ ‬إن كان ذلك سيؤثر على دخله الشهري‮ ‬؟ وماذا عن الودائع ومهر الولد في‮ ‬البنك،‮ ‬فقد احتفظنا به حتى إعلان وقت الزفاف ؟ هل ستصبح البنوك خاوية صناديقها عندما‮ ‬يقولون لنا إن البنوك أفلست‮ ! ‬يا للهول لهذا الدكان الزجاجي،‮ ‬فقد قالوا لنا إن البنوك لا تفلس‮ !!. ‬
لقد بتنا حقا في‮ ‬حالة فزع‮ ‬يومي‮ ‬وكابوس في‮ ‬المنام،‮ ‬فحال المنكوبين من الفقراء وذوي‮ ‬الدخل المحدود لا‮ ‬يقل كابوسية عن دخل الطبقة الوسطى،‮ ‬التي‮ ‬شعرت بريشها‮ ‬ينفش وينكمش كالأزمة،‮ ‬عندما صعدت سلم المجد المالي،‮ ‬ولكنها اليوم تشعر بمقولة اقتصادية حقيقية اسمها الانكماش،‮ ‬الركود،‮ ‬الكساد،‮ ‬بل والإفلاس وضغط الدم‮. ‬لقد ألغت الزوجة حفلتها المعتادة في‮ ‬الشيراتون السنوية لأعياد ميلاد الأولاد،‮ ‬فقد صار البيت كله متوترا‮. ‬
بهذه التصريحات نتابع القصص الخلفية للازمة وشيطانها في‮ ‬الصحافة الغربية،‮ ‬إذ ما‮ ‬يهم هو معرفة الانعكاسات الاجتماعية والصحية والأخلاقية والسلوكية على شرائح كثيرة في‮ ‬مجتمع الرفاهية‮. ‬بل وسيتعلم الناس إعادة قراءة القاموس السياسي‮ ‬في‮ ‬عالم الرأسمالية والنيوليبرالية،‮ ‬التي‮ ‬أزاحت عن وجهها الجشع وأفرزت شرائح من الجماعات المصرفية والمالية همها التلاعب وسرقة دخل الناس العاديين وإعادة بيعهم لهم مرة تلو أخرى‮. ‬
تعلم الناس اليوم ماذا‮ ‬يعني‮ ‬فقدان الثقة بالنظام المالي‮ ‬الحالي،‮ ‬والذي‮ ‬فتح نافذة جديدة للتوقف برهة نحو قضية اختلال توزيع الثروة بين الناس في‮ ‬المجتمع الواحد وبين البلدان والمجتمع الدولي‮. ‬كنت بالفعل مشغولا طوال الأسبوع الأخير اقرأ تحليلات ودراسات ومقابلات،‮ ‬وأتابع مفردات كادت بحد ذاتها ترعب الناس كلما تم استخدامها،‮ ‬وكأنها تصب الزيت على النار‮. ‬لقد كانت تحدث في‮ ‬العقود السابقة هزات اقتصادية كبرى،‮ ‬ولكن بسبب العزلة الإعلامية ومحدودية انخراط الناس والشرائح في‮ ‬عالم المال المحصور سابقا بفئات محددة ظلت ضيقة التأثير،‮ ‬فيما نجد الأزمة اليوم تلاحقنا بتلفاز‮ ‬غرف النوم‮.‬

صحيفة الايام
21 اكتوبر 2008