ظلت لأسابيع قليلة مضت، كان المهتمون بالأزمة المالية الأمريكية وانعكاساتها المتوقعة على النظام المالي العالمي فقط، هم النخب الضالعون في مكعباتها ومسدساتها وجزيئاتها الرياضية ونظرياتها التخمينية والاحتمالية، فهم وحدهم من كانوا معنيين بمتابعة المؤشرات المرتفعة والهابطة كضربات القلب عند تزايده أو انخفاضه. هؤلاء النخب ومنهم التكنوقراط وتحديدا العاملين في مجال المال وبيوت التموين والاستثمار في المجال العقاري وبنوكها العمياء، هم من أكثرهم متابعة لوجع ورقص شارع الوول ستريت، فمن هناك يولد بيت الشيطان وتفرخ أولاده بيضا ملونا بالعملات والأسهم والأحلام.
كان حتى وقت قصير وحدهم المختصين يعرفون إلى أين يتجه القارب الغارق في مجونه وجنونه، فليس هناك إلا حضن الجحيم وأجنحة الشيطان، فوحده كان يحلق دون رقيب ويدخل الأمكنة دون رقيب ويفعل ما يشاء دون رقيب ( غياب نظام الرقابة المالية ) بل ويقرض ويقترض كيفما يشاء دون رقيب، المهم انه الوحيد من يسلب الفقراء جيوبهم، وكلما زادت معاناة الناس بالإفلاس والمصائب زاد جشعه بحثا عن رفاهية الامتيازات المنتظرة كونه بات زبدة الزبدة المدللة في مجالس إدارية لتلك البنوك العقارية، التي أثرت ثراء فاحشا من تلك اللعبة إلى إن أغرقت نفسها ومن حولها كما يفعل الشيطان عند اصطياده، فيخرج لك لسانه لماذا قبلت الوقوع في الفخ، يا لتعاسة المحرومين الباحثين عن بيت في الأرض وبيت في الفردوس، وقد نسوا أن الشيطان لا يمنح الناس إلا صكوكا مزيفة. وبدلا من وضع تلك النخبة المدللة التي أدخلت العالم في لعبة المغامرة إلى حد الانتحار، نرى أصدقاء الشيطان يدافعون عنهم، بل ويصرون على مكافأتهم بدلا من محاسبتهم ووضعهم خلف أسياخ السجن.
لهذا صارت الثورة الإعلامية كابوسا إضافيا لمن سقط في الأزمة وصار جزءا منها، بل وتحولت الماكينة الإعلامية إلى رعب إضافي للناس، حيث أصيب كل فرد بسيط في حالة من الذعر والتساؤل حول كل شيء مصرفي، ويسأل عن كل تلك المعادلات الصعبة والأسماء الجديدة التي غابت عن ذهنه لوقت طويل.
فهل بالإمكان إقناع مواطن مبهور بالقوة العظمى وبلد الفرص والثراء بأن تصاب بهذه المحنة والتي تكاد تكون،، إعصار الأعاصير،، بل،، ويوم الحشر العظيم،، في الاقتصاد الأمريكي ؟ فقد بات يقرأ المواطن الغلبان صاحب حساب التوفير براتبه الشهري إن كان ذلك سيؤثر على دخله الشهري ؟ وماذا عن الودائع ومهر الولد في البنك، فقد احتفظنا به حتى إعلان وقت الزفاف ؟ هل ستصبح البنوك خاوية صناديقها عندما يقولون لنا إن البنوك أفلست ! يا للهول لهذا الدكان الزجاجي، فقد قالوا لنا إن البنوك لا تفلس !!.
لقد بتنا حقا في حالة فزع يومي وكابوس في المنام، فحال المنكوبين من الفقراء وذوي الدخل المحدود لا يقل كابوسية عن دخل الطبقة الوسطى، التي شعرت بريشها ينفش وينكمش كالأزمة، عندما صعدت سلم المجد المالي، ولكنها اليوم تشعر بمقولة اقتصادية حقيقية اسمها الانكماش، الركود، الكساد، بل والإفلاس وضغط الدم. لقد ألغت الزوجة حفلتها المعتادة في الشيراتون السنوية لأعياد ميلاد الأولاد، فقد صار البيت كله متوترا.
بهذه التصريحات نتابع القصص الخلفية للازمة وشيطانها في الصحافة الغربية، إذ ما يهم هو معرفة الانعكاسات الاجتماعية والصحية والأخلاقية والسلوكية على شرائح كثيرة في مجتمع الرفاهية. بل وسيتعلم الناس إعادة قراءة القاموس السياسي في عالم الرأسمالية والنيوليبرالية، التي أزاحت عن وجهها الجشع وأفرزت شرائح من الجماعات المصرفية والمالية همها التلاعب وسرقة دخل الناس العاديين وإعادة بيعهم لهم مرة تلو أخرى.
تعلم الناس اليوم ماذا يعني فقدان الثقة بالنظام المالي الحالي، والذي فتح نافذة جديدة للتوقف برهة نحو قضية اختلال توزيع الثروة بين الناس في المجتمع الواحد وبين البلدان والمجتمع الدولي. كنت بالفعل مشغولا طوال الأسبوع الأخير اقرأ تحليلات ودراسات ومقابلات، وأتابع مفردات كادت بحد ذاتها ترعب الناس كلما تم استخدامها، وكأنها تصب الزيت على النار. لقد كانت تحدث في العقود السابقة هزات اقتصادية كبرى، ولكن بسبب العزلة الإعلامية ومحدودية انخراط الناس والشرائح في عالم المال المحصور سابقا بفئات محددة ظلت ضيقة التأثير، فيما نجد الأزمة اليوم تلاحقنا بتلفاز غرف النوم.
صحيفة الايام
21 اكتوبر 2008