تنوعت أزمات الاقتصاد الرأسمالي الغربي المتطور، الذي يقود الإنسانية المعاصرة منذ عدة قرون، وهو محمل بتناقضاته العميقة، حيث الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتمويل، وحيث قوى العمل الواسعة التي لا تملك شيئاً والتي تقدر بمئات الملايين لتصبح بمليارات البشر العاملين في الوقت الراهن.
والأزمة المالية الراهنة تبدو مرحلة تقدم كذلك، فهي تجسد السير لحل التناقض المستعصي على الحل؛ وجود أموال وفيرة ومساكن خاصة للأغلبية العاملة.
فالرأسمالية تنمو عبر التناقضات وحل هذه التناقضات، أولاً على الصعيد الوطني للأقطار الرأسمالية المتقدمة، وثانياً على صعيد حل تناقضات الرأسمالية على الصعيد العالمي، والنقطة الأخيرة تحتاجُ إلى عقود طويلة.
وكانت أزمات النظام الرأسمالي سابقاً أزمات (بضائعية)، فكانت البضاعة المنتج المباشر لقوة العمل هي التي تسبب الأزمة بعدم شرائها من قبل المستهلكين، فهي تخرج بكميات هائلة ثم يتوقف شراؤها إلى مدى زمني معين، وكان هذا نتاج تضارب المصانع وضعف القوى الشرائية وغياب التخطيط ومراقبة وتدخل الدول، وتم التغلب على هذا بتوسيع الاستهلاك من قارات محددة إلى كل العالم، فصار العالم كله سوقاً. فلم تظهر أزماتٌ بضائعية، ولم تحدث عمليات الهدر والحرق والإتلاف الواسعة المخيفة للبضائع كما حدث في الثلاثينيات من القرن الماضي، كذلك فإن العالم الغربي تحول بشكل كبير من البضائع الرخيصة والغذائية إلى البضائع الثمينة والمعمرة، وحوّل العالم الثالث إلى المنتج الأكبر للبضائع الزراعية والمواد الخام، وصار يبيعه تلك السلع الغالية، في حين كانت أريافه تتعرض للبوار، بسبب السياسة الاجتماعية بانهاك الأرياف وعدم تغيير شروط إنتاجها.
وتجسدت الأزمة الاقتصادية في بضاعة (المال)، في هذا النقد الذي كان هو الذي يحلُ الأزمات. لقد غدا رأس المال المالي هو الشكل الغالب المنتشر بين أوجه رأس المال. وتراكمت فوائضُ بقية الرساميل فيه، فتضاعفتْ سرعتهُ في النمو والانتشار والبحث عن أرباح.
وابتعد عن تمويل الصناعات التي كانت العصب الرئيسي لظهوره وتناميه، وابتعد عن تغيير الزراعة والصناعة في العالم الثالث، مركزاً على سحب الفوائض النقدية والتجارة في المواد الثمينة كالبترول، ووجد المساكن في العالم الغربي هي سوقه الجديدة الكبيرة، وعمليات بيع البيوت في الغرب بهذا الاتساع الهائل تمثل تقدماً على صعيد معيشة الطبقات العاملة وكذلك على العجز عن تحقيق هذه المعيشة التي تغدو رهونات وإفلاساً.
بسبب ان القوى العاملة والمتوسطة في الغرب ذات مستوى معيشة مرتفع قياساً لملايين الناس في بقية العالم، وهذه القوى تحلم ببناء مساكنها في المناطق الواسعة الريفية والبعيدة عن المدن المكتظة بالسكان وعن التلوث، فقدمت البنوكُ تسهيلات كبيرة لإخراج مدخرات هؤلاء العاملين ووضعها في صناديقها، وللاستفادة منها وتوظيفها في مناطق أخرى، وجذب رساميل من تلك المناطق لتقديم تسهيلات بنائية وشرائية لزبائنها، فصارت العملية مركبة متداخلة.
كما أن البنوك غدت لها طرق كثيرة لجذب الأموال وتشغيلها، ومراكمة الأرباح داخل بلدانها وخارجها، وغدت هي محور تراكم الفوائض، مما جعل العالم يسبح فوق بحار من النقود المتلاشية القيمة.
ولكن النقود مهما بدا أنها تحرك الاقتصاد فهي ليست سوى نتيجة لتطوره وقوته، واقتصاد الولايات المتحدة التي كانت مركز الأزمة، كان يتجه لأزمة عميقة بسبب تحول الولايات المتحدة من قائد للاقتصاد العالمي، والدولة البارزة في إنتاجه الصناعي، (30%) من إنتاج البضائع الصناعية الكبرى، إلى دولة منهكة اقتصاديا نظراً لسياستها العسكرية ولانفاقها كميات هائلة من النقد على السلاح والحروب، وهذه تزيد أرباح شركات السلاح، لكنها لا تجلب قيماً إنتاجية، بل هي تهدر القوى المنتجة.
وإذا كان هذا الهدر قد تواصل على مدى العقود السابقة فقد وصل في عهد الجمهوريين إلى الذروة، وغدت السياسة الأمريكية هي سياسة حروب، لا سياسة تنمية الإنتاج.
كما قامت هذه السياسة باستغلال النفط وفجرت حروباً حوله، فتضاعفت أسعاره وسبب تضخماً عالمياً هائلاً، وجر ذلك سلسلة من رفع اسعار المواد الأولية في البلدان غير النفطية.
وجاءت الأزمة المالية في الولايات المتحدة لتعبر عن هذا الانهاك العسكري للجمهور الذي يدفع الضرائب ولا يجد في مقابلها خدمات متطورة، بل ان خدماته تتدهور، ويجد الأسواق تضيق بشكل مستمر، وفرص عمله تتقلص، فيبدأ بعدم تسديد قروضه ويتوسع ذلك حتى ينعكس على البنوك التي لم يعد يفيدها بيع البيوت العاجز أصحابها عن الدفع، فتحدث إفلاسات في بعضها لتجر سلسلة طويلة تمتد عبر العالم، الذي وحده النقد الزائف الكثير والذي يريد أن يتكاثر من دون إنتاج مادي كبير.
وبدا واضحاً هذه الوحدة العولمية لمؤسسات النقد التي غدت هي المسيطرة على عمليات الائتمان والتمويل والتجارة، وتراجعت المصانع والمزارع في خلفية المشهد الاقتصادي العالمي.
ولا ينفصل ذلك عن سياسات أقصى اليمين التي صنعتها حكوماتٌ قصيرة النظر، وارادت الازدهار عبر البنوك وتوسيع عمليات الاستهلاك البذخي، بدون أن يتواكب ذلك مع عمليات إنتاجية واسعة، وتخفيض للهدر العسكري وميزانيات التسلح الباهظة.
فنجد مؤسسات البنوك كأنها اخطبوط يلف العالم كله، ومهمته عصر المنتجين وتسليفهم للمزيد من امتصاصهم، ولهذا فإن الاخطبوط أصيب في رأسه الأمريكي.
والغريب ان حكومات أقصى اليمين التي كانت تطرح بشكل مستمر وحاد إبعاد الدول عن التدخل في أمور الاقتصاد هي التي تسرع في فرض تدخل الدول، ولكن باتجاه مساعدة أصحاب المليارات وانقاذهم وهم الذين سببوا الأزمة وشردوا أصحاب البيوت الفقراء وخدعوهم بالقروض والتسهيلات البنكية فراحت الحكومات تكافئهم على ذلك بانقاذ مؤسساتهم الفاشلة، قصيرة النظر والنهمة.
والأغرب هو تصاعد هذه المؤسسات الجامعة للنقود وكأن الاقتصاد لم يعد فيه سوى الربح السريع وتجميع الأموال وتحريكها وتلويث البيئة وقطع الأشجار وملء سماء المدن بالدخان.
صحيفة اخبار الخليج
19 اكتوبر 2008