المنشور

جـردة حسـاب للنواب (3)


أتاح الوضع السياسي في البحرين للقوى السياسية عملية تغيير ملكية رأسمالية الدولة، أكثر من العديد من دول المنطقة، وهي القضية المحورية في الحياة الاقتصادية وعبر تحويلها يمكن إعادة تشكيل المجتمع للسنوات القادمة باتجاه وطني ومتساو بين المحافظات. وإذا كانت القوى السياسية المذهبية في البرلمان قد عالجت جوانب عديدة من هذه القضية المحورية، إلا أن هذه المعالجة ظلت جزئية ولا يحكمها توجهٌ توحيدي وطني. وكانت الوفاق تحسُ بنبض الناس أكثر من بقية هذه القوى لكن كيف تكونتْ معالجتُها؟ لقد قلنا إن التوجهات المذهبية السياسية كانت أقوى من التوجه الوطني الديمقراطي فيها، فرؤيتها تقف عند أن مشكلات النظام هي مشكلاتٌ طائفية، وأن الظلمَ في هذا الجانب هو المشكلة المحورية، إذاً كان لابد من تفجير هذه الحالة وتغيير الأوضاع. فكيف يتم ذلك؟
 
قيل في الأخبار ما يلي: (انسحبت جماعة المعارضة الرئيسية من البرلمان في 13/5/2008 احتجاجاً على ما قالوا إنه تلاعب حكومي في بيانات السكان في الدولة الخليجية. وعلى مدى سنوات ظل عدد السكان من الناحية الرسمية في المملكة الصغيرة حوالي 742 ألف نسمة، لكن الإحصائيات الحكومية في فبراير أظهرت انه قفز بنسبة 42% تقريباً أي إلى 05،1 مليون نسمة، ما أثار جدلاً. واتهمت جمعية الوفاق الوطني الإسلامية المعارضة المسؤولين بالإهمال حيناً، وبتعمد إخفاء الأرقام الحقيقية، بعدما ظهرت القفزةُ السكانية الكبيرة وانسحب أعضاؤها بعدما برأ تحقيق رئيس جهاز المعلومات الحكومي من ارتكاب الأخطاء)، (رويترز).

توجهت معالجة الوفاق لهذه القضية الخطيرة، قضية التجنيس، إلى أن تكون معالجة طائفية، فركزتها في صراعِ طائفةٍ ضد أخرى، وكون الحكومة هي أداة تنفيذ هذه السياسة. لكن كان أمامها نواب من الطائفة السنية لم تستطع بطبيعة هذا الطرح أن تجعلهم يؤيدون سياستها. فمواجهة الطائفية بطائفية أخرى، هي سياسة واحدة ذات وجهين حكومي ومعارض، سواءً بسواء. وكونها قد اختارت مسؤولاً محدداً تصبُ عليه قذائفَها، فهذا نتاجُ صراعٍ طائفي. لو أن هذه السياسة كانت سياسة وطنية، وبطبيعة الحال هذا افتراضٌ ممكنٌ عبر فصل السياسة عن المذهبية، فإن الدعوة ستكون لنواب الطائفة الأخرى، ليس باعتبارهم أعضاء في منظمة مذهبية، بل باعتبارهم قوى سياسية وطنية، وبكون سياسة التنجيس مضرة بالبلد وبالخدمات وبالقانون، وأن تغيير أي جانب من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية يجب أن يكون عن طريق الهيئة المنتخبة، التي تمثل شعب البحرين المتضرر من هذه السياسة التجنيسية ومن السياسة الاقتصادية والبيئية والمالية والجغرافية الخ، وبهذا تتشكلُ هنا سياسةٌ وطنية، وتتكون قوىً موحدة. ويمكن أن تنمو هذه السياسة الوطنية في المشكلات والقضايا المطروحة كافة فلا يتحسس الآخرون من مذهبية مضادة، ومن هاجس مذهبي متأزم مسيطر.

لا شك في أن مثل هذا الطرح الوطني سوف يحتاج إلى وقت وجهد، ويحتاج إلى كوادر وطنية متأصلة في درس الملكية العامة التي سيطرت عليها القوى البيروقراطية، وغلفتها في إحصائيات غامضة وفي شركات ملفعة بحراس غلاظ، ولكن لن يتم اختراق ذلك من دون تعاون القوى الاجتماعية والسكانية كافة، بحيث يتم توزيع ثمار هذه الملكية العامة بشكل وطني ولصالح الأغلبية. إن وعي (الغالبية الشعبية) المتضررة من سياسة الملكية العامة البيروقراطية الراهنة، هو الذي يُفترض أن يسيطرَ على وعي النواب، من أجلِ تكونِ أغلبيةٍ برلمانية مؤيدة لهذه السياسة تدفع باتجاه تغييرات. ولا شك أن الجمهور المتحمس العاطفي يريد تغييرات سريعة، ويضغط على النواب من أجل مثل هذه التغييرات، لكن لابد من مواجهة هذا الجمهور وبكون التغييرات تحتاجُ إلى جهود شعبية واسعة متضامنة وإلى صبر، وإلى ضغوط نقابية وسياسية واجتماعية متعددة وإلى علوم تقرأ الاقتصاد.

إنها سياسة بعيدة المدى، لكن هل تستطيع الجماعات المذهبية أن تصبر على هذا وهي عفوية عاطفية مثل جمهورها؟ ليس ثمة من خيار سياسي سوى هذا الممكن، وأن الهروب باتجاه المستحيل السياسي هو تضييع وقت، واستنزاف قوى، ولابد من جعل الجمهور يهضم سياسة الممكن هذه، ويفهم أن البرلمان ليس أداةً سحرية وهو ليس كالخطب المنبرية، بل هو سياسة بحث عن أرقام وأخطاء وكشف تلاعبات، وانتزاع للمال العام من الأشداق البيروقراطية بكل صبر وعلم، فهي ليست سياسة سكون أو صمت تجاه الفساد وتجاه تردي معيشة الناس، لكنها سياسة توحيد وطنية تصل إلى مشروعات قوانين وإلى محاسبات في العظم، وليست محاسبات الاستعراض والتفجير الصاروخي. ولهذا فإن الجماعات المذهبية السنية تكون الوجه الآخر لهذه السياسة المذهبية اليمينية، ومعنى ذلك أنها من أهل اليمين الرأسمالي الغامض الطالع في الخفاء.
 
أخبار الخليج 17 اكتوبر 2008