مرة أقام أدونيس ما يشبه الحوار الذهني مع الكاتب القادم من الجزيرة العربية عبدالله القصيمي، كأن أدونيس في هذه الحوار، الذي يبدو متخيلاً، لجأ إلى نصوص القصيمي فأمسك ببصيرته كقارئ عميق لهذه النصوص، بما فيها، من حرارة الانتساب إلى الحياة وإلى المعرفة وإلى المستقبل، فأعاد تدوينها. في هذه القراءة، سأل أدونيس القصيمي عن ماذا يريد أن يقول، فأجاب الثاني أنه لا يريد أن يقول للآخرين شيئاً، إنما يريد أن يرمي نفسه خارج نفسه، فهو في كتاباته يعتقد أنه يعتدي على الآخرين، على نحو ما يفعل بقية الكتاب. لكنه أوضح بأنه يحاول أن يعبر عما يضايقه ويثير احتجاجه ويُنكره منطقه في كل شيء، بما في ذلك في الإنسان العادي الذي يهتف للغباء وللطاغية أو في الطاغية نفسه أو في مجتمعاتنا أو في مجتمعات الآخرين أو في المجتمعات التي تخاصمنا، إنه يحتج على الغمامة التي تسقط مطراً على بلدٍ لا يحتاج إليه وترفض أن تزور بلداً يحتاج إليها ــ ليس للغمامة عذر في أن توزع نفسها توزيعاً سفيهاً. هل السعادة ممكنة؟ يسأل أدونيس، ويبحث عن الإجابة في نصوص القصيمي، فيجدها في التالي: “السعادة كلمة تاريخية تقليدية غير محددة، فمن الممكن أن ينال الإنسان كثيراً من احتياجاته، وأن يهزم كثيراً من آلامه ومخاوفه، فإذا كانت هذه هي السعادة، فالسعادة إذاً ممكنة، أما إذا أريد بالسعادة أن يملك الإنسان جهازاً نفسياً أو فكرياً أو جسمياً، لا يقلق ولا يحتج ولا يتعذب، فإنها بهذا المعنى غير ممكنة”. لكن القصيمي يلامس مكامن الوجع في وضعنا العربي: “أكثر ما يرهبني جداً في العالم العربي، بزوغ الطغاة المتجبرين جداً، المتفجرين تباعاً في العالم العربي، وأبشع ما في هذا أن المجتمعات المتحضرة تمكن هؤلاء الطغاة بمختلف الوسائل التي تهبهم القدرة على الإذلال والبطش، وعلى سحق القيم كلها التي جاءت بها حضارة تلك المجتمعات، وأنا أعتقد أن هؤلاء البازغين في عالمنا سيتكاثرون جداً، باسم الثورية والمذهبية”.
حين علق الطاغية السوداني جعفر النميري الشهداء عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وهاشم العطا ورفاقهم على أعواد المشانق، منذ نحو ثلاثين عاماً، هتف الشاعر محمود الفيتوري مخاطباً النميري: ” كل طاغية صنم، دمية من خشب”. للأسف الشديد فان هؤلاء الطغاة – الدمى والأصنام ما انفكوا يتكاثرون، كما هجس بذلك ابن جزيرتنا العربية عبدالله القصيمي ليقودونا نحو المهالك، واحدةً تلو الأخرى، ومن عباءة هؤلاء الطغاة يخرج عشرات، لا بل مئات وربما آلاف، من صغار الطغاة، الذين يحولون مدناً عامرة إلى أراضٍ يباب، خالية من الروح، ويقودون مجتمعات بكاملها إلى الخراب، والخراب وحده. عندما يفكرالقصيمي: هل يمكن أن توجد سدود تحول بين المجتمعات العربية وهذا الطوفان من الطغيان النابع من داخلها، لا يجد أي سد من هذه السدود المنتظرة، مما يُشعره بالخوف، أو بما يشبه الي