المنشور

‮ ‬فشل ذريع لـ‮ “‬الليبرالية الجديدة” (‬نيو لبراليزم‮)‬

 


عندما انهارت التجربة “الاشتراكية”، قبل حوالي العقدين من الآن، هلل دعاة الاقتصاد الحر، وراحوا يعلنون “نهاية التاريخ”. وكان في طليعة هؤلاء اللبراليون الجدد، الذين دعوا إلى اعتماد سياسة اقتصاد السوق الحرة، باعتبارها، لوحدها،السياسة الاقتصادية الصحيحة.


وأطلقوا من جديد، وبإلحاح شديد، فكرة “ان السوق دائما على حق” ! وراحوا يفرضون بشتى السبل إبعاد الدولة عن التدخل في شؤون الاقتصاد، ويسلبون المكاسب التي حققتها نضالات الفئات الاجتماعية المختلفة في توسيع القطاع العام، وتأمين الرعاية الاجتماعية للفئات الواسعة من المواطنين في شتى الدول باسم “الإصلاح الاقتصادي”.


غير أن الزلزال المالي الذي حدث قبل شهر من الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، وراحت تداعياته تشمل العالم كله تقريباً، اظهر خطأ هذه الفكرة، بل وخطرها الشديد على الاقتصاد العالمي كله. ولذا ورد على لسان الرئيس الفرنسي ساركوزي ” ان حال الاضطرابات التي أثارتها أزمة أسواق المال الأمريكية وضعت نهاية لاقتصاد السوق الحرة “. و” ان فكرة، السوق دائماً على حق، فكرة مجنونة ” وشبـّه ملياردير أمريكي ما حدث بـسبيرل هاربر اقتصادية “. (وبيرل هاربر هي المعركة التي دمـّر فيها الطيران الحربي الياباني الأسطول الأمريكي في المحيط الهادي أيام الحرب العالمية الثانية في أربعينات القرن الماضي ). وهناك من اعتبر الزلزال الذي حصل أخطر مما حصل للولايات المتحدة الأمريكية في الحادي عشر من أيلول العام 2001. وهو حقاً كذلك.


ذلك إن من تداعياته توقع فقدان الدولار لدوره باعتباره عملة رئيسية في التبادل المالي والاقتصادي العالمي. وأن الأزمة المالية الأمريكية لن تنتهي بسرعة، بل ستمتد آثارها لفترة طويلة قدّرها بعض الخبراء الاقتصاديين بسنتين. وان الولايات المتحدة الأمريكية ستفقد مكانتها كقوة عظمى في النظام المالي العالمي. وان وول ستريت “سوق المال الأمريكي” لن تعود إلى ما كانت عليه سابقاً.


وبطبيعة الحال فإن تأثيرات الزلزال المالي الأمريكي لن تقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية، بل ستعم الاقتصاد العالمي كله تقريباً. فهاهي ألمانيا التي لام وزير ماليتها أمريكا لتسببها في هذا الزلزال، وزعم أن ألمانيا بعيدة عن آثاره، سرعان ما اضطر إلى ضخ خمسين مليار يورو تفاديا لافلاسات تهز الاقتصاد الألماني. وان فرنسا تعاني من انعدام النمو هذا العام.

 
واقدمت الحكومة البرطانية على طرح “خطة إنقاذ سيصل حجمها إلى 880 مليار دولار للحيلولة دون انهيار احد المصارف أو بعضها. ويكاد يجمع الخبراء الاقتصاديون العالميون على أن الاقتصاد العالمي سيمر بمرحلة تراجع.


 ولتبيان فداحة ما سببّه الزلزال المالي الأمريكي نقتبس ما ذكره المدير العام لصندوق النقد الدولي دومينيك ستروس من أن خسائر أسواق المال العالمية المرتبطة، بشكل وثيق، بالأزمة المالية، بلغت حوالي العشرة ترليونات دولار. ويساوي هذا الرقم الفلكي الهائل الناتج المحلي الإجمالي للدول الخمسين الأكثر فقراً في العالم مضاعفاً تسعاً وأربعين مرة !!


ولتبيان لا عدالة، بل ظلم وإجحاف العولمة الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل الليبرالية الجديدة، إضافة إلى ما سبق ذكره بشأن الدول الأكثر فقراً في العالم، والافلاسات التي تطال الملايين، وخسران ملايين اخرين لمساكنهم، نظراً لعجزهم عن تسديد أقساط الرهون العقارية، نذكر أن أرباب المال ورجال البنوك هم الذين يستأثرون بالإرباح والرواتب الخيالية،التي تبلغ لعدد منهم ما يزيد على الثلاثين مليون دولار، وتصل لدى بعضهم إلى سبعين مليون دولار، يـُعفون من تحمـّل نتائج السياسات الخاطئة التي أدت إلى الزلزال المالي، واستدعت تخصيص سبعمئة مليار دولار من خزينة الدولة، يتحملها مئات الملايين من دافعي الضرائب،دون أن يكون لهم أي ذنب في ما حصل، ويتحمل كل رجل وامرأة وطفل من أبناء الشعب الأمريكي مبلغ الفين وثلاثمئة دولار لتأمين السبعمئة مليار دولار،التي خصصها الكونغرس الأمريكي لمعالجة آثار الزلزال المالي.


ولا بأس في هذا السياق أن نتطرق إلى بعض ما يصيب العرب من تداعيات الزلزال،الذي اثبت الفشل الذريع للـّبرالية الجديدة وخطرها على الاقتصاد العالمي، ومن ضمنه الاقتصاد العربي.


فمن المعروف أن الاستثمارات العربية في البنوك الغربية تبلغ ترليون دولار. ولا بد أنها ستفقد عشرات إن لم يكن المئات من المليارات جراء هذا الزلزال. وخسرت الأسواق المالية الخليجية السبع نحو ثلاثين مليار من قيمتها السوقية في التداولات حتى يوم الأربعاء الماضي نحو ثلاثين مليار دولار وارتفعت خسائرها في الأسبوع الماضي إلى نحو مئة وثمانين مليار دولار. وان خسائر الكويت وحدها بلغت ٥٥ مليار دولار. وان البورصة المصرية تراجعت بنسبة ستة عشر ونصف بالمائة. وخسرت ثلاثة عشر مليار دولار خلال شهر ايلول /سبتمبر الماضي. فهل سيتعظ الممولون العرب والحكومات العربية مما حصل، ويبحثون عن طرق أجدى لاستثمار رؤوس الأموال العربية، والتفكير في الاستفادة منها في إنهاض الاقتصاد العربي المتدهور، وفك ارتباط العملات العربية بالدولار، وغيرها من الإجراءات التي يطرحها الخبراء الاقتصاديون العرب؟ وهل ستكف بعض الحكومات العربية عن تطبيق وصفات البنك الدولي لما يسمـّونه بــ “الإصلاحات الاقتصادية”، وتدمير القطاع العام وبيع مؤسساته، بما فيها الناجحة، بسعر التراب للمستثمرين المحليين والأجانب ؟
 


صحيفة الأيام
14 أكتوبر 2008