ضمتني جلسةٌ صغيرة مع الروائية أحلام مستغانمي، في نادي الخريجين، راحت تتداعى فيها عن رحلة التعب مع الرواية والصحافة والجمهور العربي، تتلمسُ شظايا الزجاج المنثور المحترق، تروي مطارداتها للصوص كتبها في دمشق، وعناقها المستمر للشعراء الراحلين، كان نزار قباني حاضراً، وهو يحتضرُ، في سريرٍ بعيدٍ في عاصمةِ الضباب، تعيدُ ابنتهُ تشكيلَ بيته له، وتوهمهُ بديكورِ الحياةِ وبستائر البيت، فتضخُ في عروقه بعض حبيبات الحب في عالم غريب حديدي ينسحبُ منه، ويكاد يموتُ فيرثيهِ ويندبهُ البعضُ، فيعودُ للحياة ثانية ويدهش من لقاءاتٍ مزيفةٍ دبجها هذا النفر في غيابه المزعوم، ويروعُ من ذمٍ غريب من رفاق الدرب، فيقررُ الموتَ تماماً. كان ما روتهُ أحلامٌ هو قصةٌ – قصيدة، فهي تحيلُ كلَ شيء إلى قصة – قصيدة، مما يجعلها تنزف، ولا تستطيع الكتابة إلا في نهر من الصور والحمم. الروائية – الشاعرة أحلام مستغانمي، تنضحُ سطورُها وكلماتـُها بالشعر دائماً، ولعلها الساردةُ الوحيدةُ التي جمعتْ الروايةَ والشعرَ في جنسٍ واحد، باقتدار كبير، وهي عابرةُ أجناس، فلا جنس المرأة ولا جنس الرجل يقيدانها في انتمائِها للإنسان الموحّد، ومن هنا هي تلغي ضميرَ الساردِ الأنا المسيطر، الذي يكونُ عادةً جنسَ المؤلف الذكر، أو جنسَ المؤلفة الأنثى، فتكتبُ بلسانِ الرجل، فتخرجُ من الأنثى المتمحورة على ذاتِها، المتشرنقةِ في أنثويتِها المحدودة، وهذا الخروج الصعب العسير يفجر طاقتها الإبداعية، لكي تدخل دائرة الإنسان. من الصعب جداً أن يخرجَ الروائي من ذاته إلا في حالة قضية كبرى تلتهمُ كيانَهُ، أي في حالةِ أن تستحوذَ عليه الشخصياتُ الحقيقية أو المتخيلة، إلى درجة ينسى نفسه، ويحيلها مكانه، وهذا يغدو في كلام أحلام شعراً، سواء من حيث السرد أو من حيث الجوهر الدلالي، لكن هذا يتطلبُ كميةً كبيرةً من الانفعال والاحتراق الشخصي، ولهذا فإن رواياتها قليلة إلى درجة الندرة. هي عابرةُ أجناسٍ وقوميات وشعوب وأنواع أدبية وفنية، والجزائر الساكنة فيها المتغلغلة في شرايينها، أعطتها إمكانيةَ العبور الكبرى هذه، وهي سلسلةُ تجاربٍ ضارية لم يعشها شعبٌ آخر، لهذا لا يستطيع أحدٌ أن يقلدها. لقد جاءتْ لهذه السلسلة النارية من التجارب الدموية لهذا الشعب الغريب الجريء الكاسح غضباً، لكنها لم تؤسر في مثل هذا الغضب، ولم تتشرنق في الخريطة الوطنية في لحظاتها المنفصلة بل قامت بتتبع هذه الحلقات وتناولها وتصويرها في سيرورتها. ولم تكتفِ بعبور أسوجة الحدود الجنسية والسياسية بل كذلك عبرتْ أسوجةَ الأنواع من دون أن تتخلى عن جنس الرواية، جنس الحكي والقص الممتع. لو تأخذ أي فقرة من رواياتها ستجدُ جملةَ فنونٍ، وهي حالة من التداعي صعبة، فأن تربط بين مصور فوتغرافي والموسيقى واللوحات التشكيلية هو ربط ممتنع غالباً، لكنه هنا يأتي من عمق المشهد الروائي، مما يوسعُ عمق هذا المشهد ويجعله اخاذاً. وهذه المشهدياتُ المتصاعدةُ المتضافرة في رويها وأحداثِها وشخوصها، تنبعُ من بناء الرواية التي تتحدث عن صراع الشخصية، وعن صراع الوطن، عن مذابحه ومعاناته. لو نأخذ بعضَ الفقرات من روايتها(سرير عابر) كمثال. سوف آخذ قطعةً من وصفها للأحذية. فلكي تتحول الأحذيةُ إلى قصيدةٍ هو شيءٌ خارق. لكن الأحذية هنا ليست أحذية عادية. بل أحذية القتلى الجزائريين الذين سقطوا في نهر السين الكائن في باريس عاصمة الثقافة والحس الإنساني حين كانوا يحتجون على قمع فرنسا لشعبهم في سنوات المقاومة. وهو مشهدٌ يُروى من خلال البطل الجزائري المصور الذي ذهب لباريس لتسلم جائزة: (قالتْ مشيرةً إلى لوحة تمثل شباكاً بحرية محملة بأحذية بمقاييس وأشكال مختلفة تبدو عتيقة ومنتفخة بالماء المتقاطر منها)، (هذه رسمها زيدان تخليداً لضحايا مظاهرات)، (كان البوليس يستوقف الواحدَ منهم سائلاً:(محمد أتعرف السباحة؟) وغالباً ما يجيب المسكين (لا) كما لو كان يدفعُ عنه شبهة. وعندها يكتفي البوليس بدفعه من الجسر نحو السين. كان السؤال لمجرد توفير جهد شدّ أطرافه بربطة عنق)، (ما توقعوا أن تخونهم أحذيتهم لحظة غرق)، (غير أن «السين« الذي عانى علة النسيان ما عاد يعرفُ بالتحديد عددَ من غرق يومها منهم)، ص 59 – .61 إنه مشهدٌ يتطور من لوحة معلقة يمثل الفنان الرسام لحظتها الأولى، ثم يحللها المصورُ الفوتغرافي البطل الرئيسي في الرواية، فتغدو صور الأحذية سلسلة من المشهديات الساخرة المليئة بالحزن، وليست هذه المشهديات المرتكزة على تداخل الفنون ببعيدة عن جدلية الشخوص، بل هي تستهدفها وتستهدف علاقات بين الرسام الكهل صاحب التجربة الوطنية النضالية القديمة، وبين المصور ذي التجارب الكفاحية المختلفة الحديثة، فيظهر جدل أنواع فنية، وجدل أجيال، من خلال تجربة شعب واحد. مثل هذا النموذج، أو الجزئية الفنية، هنا ليس هو وحيداً، بل كل المشاهد واللحظات الروائية، مما يجعل عملية الكتابة شبيهة بالنحت والحفر. وإذا كان المشهد يترابط والفنون فهو يترابط مع تمثلات الحياة العادية من أمثال وحكم وأقوال عامية والتقطات شعرية، فذلك المشهد الذي صورت فيه المصور الفوتغرافي وهو يلتقي الفنان الرسام، مرسوم كذلك بالحوار بينهما، فهنا يشتغل الجدل، وفيه أقوال بليغة عن السياسة توجز حياة نموذج. مثل هذه المشهديات تتكرر عن جسور قسنطينة وعن الارهاب في الغابات وعن كل حدث ولقطة، فالكاتبة ترهق نفسها بقوة، وتقدم هذا الارهاق شفافا جماهيريا ممتعا، مصعدةً محاورَ الرواية ولوحاتها إلى الذروة، وهو أمرٌ يحتاج إلى درس نقدي. لقد ذكرتني ابنة مدينة قسنطينة بهذه المدينة الرائعة التي ذهبنا إليها في وفد اتحاد الكتاب العرب سنة 1975 وقابلنا الرئيسَ هواري بومدين الذي تكلمتْ عنهُ في هذه الرواية كذلك، وكانت كلماتها تنفذُ إلى عظام المرحلة، كعادتها، ووقفنا على جسور قسنطينة واستقبلنا أولادُ المدينة الأشقياء وفجروا تحت أقدامنا المفرقعات فركضنا إلى قاعة المؤتمر.
صحيفة اخبار الخليج
14 اكتوبر 2008