صار العراق بدلاً من دولةٍ وطنية حديثة موحدةٍ كياناتٍ تتوجهُ لتكون دولاً مستقلة متصارعة، وكما عبرت عن ذلك ظاهراتٌ تم رصدها سابقاً، فإن الصراعَ الأكبر جرى حول موارد البلد وكيفية رؤية تطوره الاقتصادي. لقد كانت لسلطة الاحتلال خطة خاصة في هذا الشأن، فالاقتصاد في خاتمة المطاف هو بيت القصيد.
في يناير 2007 صدر إعلان النيات بين الرئيس جورج بوش والسيد نوري المالكي وتضمن الالتزام بمبادئ الليبرالية الجديدة، وهي النمط الاقتصادي الذي قلنا إنه يمثل سياسة المحافظين الجدد الأمريكيين وصارت له نتائج كارثية على الاقتصاد الأمريكي والعالمي في الفترة الأخيرة كما ظهر ذلك في الأزمة المالية، وقد تضمن إعلان الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء العراق، قيام سياسة اقتصادية حرة وتقليص القطاع العام والتركيز في بيع النفط الخام، يقول الباحث الاقتصادي العراقي كاظم حبيب إن ذلك يعني(التخلي عن دور الدولة الكامل في النشاط الاقتصادي وترك المجال كاملاً للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، ونظراً لضعف القطاع الخاص المحلي سيكون الباب مفتوحاً للقطاع الخاص الأجنبي)، وكذلك (التخلي عن التصنيع التحويلي للزراعة)، و(الاعتماد الكامل على الاستيراد وسياسة الباب المفتوح). ومن شأن هذا كله تحويل السوق إلى مؤسسات تمتص النقدَ السائل وتحوله إلى الخارج، ارباحاً وشراءً للبضائع والأجهزة والسلع كافة، وعلى حد تعبير الباحث الاقتصادي السابق الذكر، (إن هذا يعني أن الاقتصاد العراقي يبقى تابعا ومرتبطا عضويا بالنفط الخام والاستيراد الذي يستنزف كامل الدخل القومي). وقد تم التخطيط لهذا كله في ضوء قوة العراق البترولية.
قال محسن خان مدير قسم الشرق الأوسط بصندوق النقد الدولي إنه ( يتوقع أن ينمو الناتج العراقي خلال سنة 2008 بنسبة 7% وأن يستمر النمو بنسبة 7 % أو 8% في عام 2009). وحسب تقديرات صندوق النقد الدولى فإن متوسط إنتاج النفط العراقي الذي يمثل 70% من الدخل الوطني، أو 80% في تقديرات أخرى، بلغ مليوني برميل يوميا خلال الفترة من عامي 2006 و 2007 . فبلغت إيرادات العراق سنة 2007 نحو 27 مليار دولار في مقابل 20 مليار دولار سنة 2006 . وقال مهدي الحافظ وهو وزير سابق وباحث إن الاقتصاد العراقي مشوه وتعتمد موازنته العامة على فوائض النفط فتبلغ 85% من مجموع مصادر التمويل، ولكن هذه الموازنة تتعرض لجهاز دولة بيروقراطي يعاني قلة الموارد الضريبية، كما تم (رصد موارد غير قليلة لأغراض معينة كفقرة المنافع الاجتماعية لتخصيصات مفتوحة لرئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب وجهات رسمية أخرى التي تفتقر إلى تعريف وضوابط واضحة مما يثقل لوحة الأنفاق العام)، (مهدي الحافظ، دراسة في مجلة الغد الأردنية).
إن المحاصصة السياسية المذهبية على مستوى الدولة تتحول إلى محاصصات مالية وتشكيل قوى بيروقراطية استغلالية تدعم تلك الدويلات الجنينية، مما يحول الصراع السياسي هنا إلى صراع على المصالح الاقتصادية وعلى الميزانية العامة فكل اقليم يطالب بحصة أعلى، وقد حدثت الصراعات على هذه الحصص، فيظهر اقليمٌ مميز وآخر غير مميز. ويعرض برنامج الحزب الشيوعي العراقي ذلك من دون أن يتطرق إلى الأسماء والجهات وحالات الصراع المريرة فيدعو إلى تنفيذ الأهداف التالية: (تصفية مظاهر التمييز والنزعات الشوفينية والتعصب القومي والديني والمذهبي، التي أفرزتها الدكتاتورية المقبورة وحروبها، وفاقمتها سياسةُ الاحتلال وقوى الإرهاب والسياسات الخاطئة في إعادة بناء مؤسسات الدولة)، (نبذ نهج المحاصصات، وانهاء مظاهر الاستقطاب الطائفي، وتكريس نهج الوحدة الوطنية)، (4و5 من فقرة بناء الدولة، برنامج الحزب الشيوعي العراقي).
وهذه تبقى أمنيات في وقت تتوجه سياسة رئيس الحكومة إلى تقزيم القطاع العام الصناعي وعدم تحويل كمية كبيرة من الفوائض للصناعات المعدنية والبتروكيمائية، وعدم انقاذ الزراعة العراقية المنهارة التي راحت تستورد حتى الخضراوات، وكل هذا يتساوق مع السوق المفتوحة الحرة وتغلغل الشركات الأجنبية ومنافع البيروقراطيات السياسية الجديدة التي تموه تبعيتها واستغلالها بالمذاهب الإسلامية والأفكار القومية. وعبر هذه التوجهات ستبقى سياسة الحكومة العراقية سياسة توزيع مالي وليست دولة مالكة لقطاعات عامة تصنيعية، تقود بها اقتصادا وطنيا مستقلا قويا، وتتحول القوى البيروقراطية الحاكمة إلى قوى متنفذة في السوق، وتنشئ علاقات سياسية فوق مؤسسات الدولة العراقية، فكل اقليم يقيم تحالفاته مع الدول الغربية المسيطرة أو مع الدول المجاورة التي تسعى لتفكيك العراق والسيطرة على أقاليمه. ومن هنا أهمية نشوء تحالفات ديمقراطية تحديثية تقدمية تشمل العراق كله، وتنشر ثقافة موحدة وتصنع إرادة موحدة جديدة لعراق ديمقراطي علماني بدلاً من الانزلاق في التخلف والتقسيم.
أخبار الخليج
13 أكتوبر 2008